قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ ": اخْتَلَفُوا فِي أَمْرِ ابْنِ صَيَّادٍ اخْتِلَافًا كَثِيرًا هَلْ هُوَ الدَّجَّالُ أَمْ لَا، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ احْتَجَّ بِحَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي قِصَّةِ الْجَسَّاسَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَافَقَ صِفَةُ ابْنِ صَيَّادٍ وَصِفَةُ الدَّجَّالِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَشْبَهَ النَّاسِ بِالدَّجَّالِ عَبْدُ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، وَلَيْسَ هُوَ هُوَ. قَالَ: وَكَانَ أَمْرُ ابْنِ صَيَّادٍ فِتْنَةً ابْتَلَى اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَعَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا الْمُسْلِمِينَ وَوَقَاهُمْ شَرَّهًا. قَالَ: وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ تَمِيمٍ، هَذَا كَلَامُ الْبَيْهَقِيِّ، قَدِ اخْتَارَ أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ أَنَّهُ الدَّجَّالُ، فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَقْتُلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّهُ ادَّعَى بِحَضْرَتِهِ النُّبُوَّةَ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ، ذَكَرَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْجَوَابَ، وَالثَّانِي أَنَّهُ كَانَ فِي أَيَّامِ مُهَادَنَةِ الْيَهُودِ وَحُلَفَائِهِمْ، وَجَزَمَ الْخَطَّابِيُّ بِالْجَوَابِ الثَّانِي، قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ كَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ كِتَابَ الصُّلْحِ، عَلَى أَنْ يُتْرَكُوا عَلَى حَالِهِمْ، وَكَانَ ابْنُ صَيَّادٍ مِنْهُمْ أَوْ دَخِيلًا فِيهِمْ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَأَمَّا امْتِحَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا خَبَّأَهُ لَهُ مِنْ آيَةِ الدُّخَانِ ; فَلِأَنَّهُ كَانَ يَبْلُغُهُ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْكَهَانَةِ وَيَتَعَاطَاهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْغَيْبِ، فَامْتَحَنَهُ لِيَعْلَمَ حَقِيقَةَ حَالِهِ، وَيُظْهِرَ إِبْطَالَ حَالِهِ لِلصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ كَاهِنٌ سَاحِرٌ يَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ، فَيُلْقِي عَلَى لِسَانِهِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيَاطِينُ إِلَى الْكَهَنَةِ فَامْتَحَنَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ، أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُ قَدْرَكَ وَقَدْرَ أَمْثَالِكَ مِنَ الْكُهَّانِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ كَلِمَةً وَاحِدَةً مِنْ جُمْلَةٍ كَثِيرَةٍ، بِخِلَافِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ يُوحِي اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ مَا يُوحِي ; فَيَكُونُ وَاضِحًا جَلِيًّا كَامِلًا، وَبِخِلَافِ مَا يُلْهِمُ اللَّهُ الْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute