[٢٧] كِتَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ
[١] بَابُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
٥٥٢١ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ " قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا. قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ " ثُمَّ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءٌ فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ " قَالَ: " وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ لَا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: " كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ، وَفِيهِ يُرَكَّبُ ".
ــ
[٢٧] كِتَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ
[١] بَابُ نَفْخِ الصُّورِ
بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهُوَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ، فَفِي النِّهَايَةِ هُوَ الْقَرْنُ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ بَعْثِ الْمَوْتَى إِلَى الْمَحْشَرِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
٥٥٢١ - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ ") أَيْ: نَفْخَةِ الصَّعْقِ وَهِيَ الْإِمَاتَةُ، وَنَفْخَةِ النُّشُورِ وَهِيَ الْإِحْيَاءُ (أَرْبَعُونَ) : أَبْهَمَ فِي الْحَدِيثِ وَبَيَّنَ فِي غَيْرِهِ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ عَامًا، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ الْإِبْهَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيهَامِ، (قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! أَرْبَعُونَ يَوْمًا) ؟ بِاسْتِفْهَامٍ مُقَدَّرٍ (قَالَ: أَبَيْتُ) أَيِ: امْتَنَعْتُ عَنِ الْجَوَابِ لِأَنِّي لَا أَدْرِي مَا هُوَ الصَّوَابُ، أَوْ عَنِ السُّؤَالِ مِنْ صَاحِبِ الْمَقَالِ ; فَلَا أَدْرِي مَا الْحَالُ، (قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ) ، قَالَ: الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ لَا أَدْرِي أَنَّ الْأَرْبَعِينَ الْفَاصِلَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَيُّ شَيْءٍ أَيَّامًا أَوْ شُهُورًا أَوْ أَعْوَامًا، وَأَمْتَنِعُ عَنِ الْكَذِبِ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِخْبَارِ عَمَّا لَا أَعْلَمُ. (قَالَ) : كَذَا فِي نُسْخَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَهُ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَيَكُونَ مَوْقُوفًا، أَوِ التَّقْدِيرُ: رَاوِيًا عَنْهُ وَنَاقِلًا مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي الْجَامِعِ لَفْظُ قَالَ فِيهِ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ، (ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) أَيْ: مَطَرًا كَالطَّلِّ عَلَى مَا سَبَقَ (فَيَنْبُتُونَ) أَيْ: فَيَنْبُتُ أَجْسَادُ الْخَلْقِ مِنْهُ (كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ) ، أَيْ: مِنَ الْمَطَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا قَبْلَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا فُهِمَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ، فَتَعْبِيرُهُ بِـ " ثُمَّ " هُنَا لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ أَيْ: بَعْدَمَا عَلِمْتَ مَا سَبَقَ، فَاعْلَمْ هَذَا فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ.
(قَالَ: وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ) أَيْ: جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ (لَا يَبْلَى) أَيْ: لَا يَخْلَقُ وَلَا يَرِمُّ مِمَّنْ يَبْلَى جَسَدُهُ ; «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ» ، وَكَذَا مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، بَلْ قِيلَ: وَمِنْهُمُ الْمُؤَذِّنُونَ الْمُحْتَسِبُونَ فَإِنَّهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءُ أَوْ كَالْأَحْيَاءِ، (إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا) ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: إِلَّا عَظْمٌ وَاحِدٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ (شَيْءٍ) وَهُوَ وَاضِحٌ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُوجَبٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْإِنْسَانِ لَا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا نَفْيُ النَّفْيِ، وَنَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ ; فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا فَإِنَّهُ لَا يَبْلَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ ; لِأَنَّ اسْمَهُ مَوْصُوفٌ، كَقَوْلِكَ: لَيْسَ زَيْدٌ إِلَّا قَائِمًا، فَـ " مِنَ الْإِنْسَانِ " حَالٌ مِنْ شَيْءٍ (وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ تَثْلِيثَ الْعَيْنِ مَعَ الْبَاءِ وَالْمِيمِ، فَفِيهِ سِتُّ لُغَاتٍ، وَهُوَ الْعَظْمُ بَيْنَ الْأَلْيَتَيْنِ الَّذِي فِي أَسْفَلِ الصُّلْبِ.
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: الْمُرَادُ طُولُ بَقَائِهِ تَحْتَ التُّرَابِ، لَا أَنَّهُ لَا يَفْنَى أَصْلًا ; فَإِنَّهُ خِلَافُ الْمَحْسُوسِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَا يُخْلَقُ وَآخِرُ مَا يَبْلَى، وَمَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ قَاعِدَةُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَأُسُّهُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَكُونَ أَصْلَبَ مِنَ الْجَمِيعِ، كَقَاعِدَةِ الْجِدَارِ وَأُسِّهِ، وَإِذَا كَانَ أَصْلَبَ كَانَ أَطْوَلَ بَقَاءً.
أَقُولُ: التَّحْقِيقُ - وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ - أَنَّ عَجْبَ الذَّنَبِ يَبْلَى آخِرًا، كَمَا شَهِدَ بِهِ حَدِيثٌ، لَكِنْ لَا بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْمَحْسُوسِ، كَمَا حُقِّقَ فِي بَابِ عَذَابِ الْقَبْرِ عَلَى أَنَّ الْجُزْءَ الْقَلِيلَ مِنْهُ الْمَخْلُوطَ بِالتُّرَابِ غَيْرُ قَابِلٍ لِأَنْ يَتَمَيَّزَ بِالْحِسِّ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ الْحِسِّ. (وَمِنْهُ يُرَكَّبُ) : بِتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ (الْخَلْقُ) أَيْ: سَائِرُ الْأَعْضَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: كَمَا خُلِقَ أَوَّلًا فِي الْإِيجَادِ كَذَلِكَ خُلِقَ أَوَّلًا فِي الْإِعَادَةِ، أَوْ أُبْقِيَ حَتَّى يُرَكَّبَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ ثَانِيًا.
قَالَ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: ١٠٤] ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: ٢٩] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.