أَنَا بَعِيدٌ مِنْ مَقَامِ الشَّفَاعَةِ، قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ يَقُولُ آدَمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُمْ: لَسْتُ فِي الْمَكَانِ وَالْمَنْزِلِ الَّذِي تَحْسَبُونَنِي فِيهِ، يُرِيدُ بِهِ مَقَامَ الشَّفَاعَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ مَنْزِلَتَهُ دُونَ الْمَنْزِلَةِ الْمَطْلُوبَةِ، قَالَهُ تَوَاضُعًا وَإِكْبَارًا لِمَا يَسْأَلُونَهُ، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ لَيْسَ لِي بَلْ لِغَيْرِي. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ الْمَوَاضِعِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَتْ لِصَاحِبِكَ ذَاكَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْإِشَارَةَ الْمَذْكُورَةَ.
(وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ) أَيِ: اعْتِذَارًا عَنِ التَّقَاعُدِ وَالتَّأَنِّي عَنِ الشَّفَاعَةِ، وَالرَّاجِعُ إِلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ، أَيِ: الَّتِي أَصَابَهَا، وَقَوْلُهُ: (أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ) : بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ، أَيْ: يَذْكُرُ أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ، ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلضَّمِيرِ الْمُبْهَمِ الْمَحْذُوفِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: ٢٩] ، (وَقَدْ نُهِيَ) أَيْ: آدَمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (عَنْهَا) أَيْ: عَنِ الشَّجَرَةِ أَوْ عَنِ الْخَطِيئَةِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، (وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ) ، اسْتَشْكَلَتْ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةُ بِأَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَكَذَا شِيثٌ وَإِدْرِيسُ وَغَيْرُهُمْ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ مُقَيَّدَةٌ بِقَوْلِهِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَيُشْكِلُ ذَلِكَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي الْبُخَارِيِّ فِي التَّيَمُّمِ، «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ خَاصَّةً إِلَى قَوْمٍ خَاصَّةً» ، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْعُمُومَ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ بَعْثَةِ نُوحٍ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ بِاعْتِبَارِ حَصْرِ الْخَلْقِ فِي الْمَوْجُودِينَ بَعْدَ هَلَاكِ سَائِرِ النَّاسِ انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَقِيلَ: إِنَّ الثَّلَاثَةَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَلَمْ يَكُونُوا رُسُلًا، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ بِإِنْزَالِ الصُّحُفِ عَلَى شِيثٍ، وَهُوَ عَلَامَةُ الْإِرْسَالِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَحْثٌ ; إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِنْزَالِ الصُّحُفِ أَنْ يَكُونَ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ رَسُولًا ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي الصُّحُفِ مَا يَعْمَلُ بِهِ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، بَلْ مَوَاعِظُ وَنَصَائِحُ تَخْتَصُّ بِهِ. فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: الثَّلَاثَةُ كَانُوا مُرْسَلِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَأَمَّا نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّمَا أُرْسِلَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَكُلُّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا، هَذَا وَقَدْ قِيلَ: هُوَ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ أَيْ مُرْسَلٌ، وَمَنْ قَبْلَهُ كَانُوا أَنْبِيَاءَ غَيْرَ مُرْسَلِينَ كَآدَمَ وَإِدْرِيسَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ جَدُّ نُوحٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَرِّخُونَ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قِيلَ إِنَّ إِدْرِيسَ هُوَ إِلْيَاسُ، وَهُوَ نَبِيٌّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ نُوحٍ ; فَيَصِحُّ أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ نَبِيٍّ مَبْعُوثٍ مِنْ كَوْنِ إِدْرِيسَ نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَأَمَّا آدَمُ وَشِيثٌ، فَهُمَا وَإِنْ كَانَا رَسُولَيْنِ إِلَّا أَنَّ آدَمَ أُرْسِلَ إِلَى بَنِيهِ وَلَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، بَلْ أُمِرَ بِتَعْلِيمِهِمُ الْإِيمَانَ وَطَاعَةَ اللَّهِ، وَشِيثٌ كَانَ خَلَفًا لَهُ فِيهِمْ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ نُوحٍ، فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَى كُفَّارِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ آدَمَ وَإِدْرِيسَ لَمْ يَكُونَا رَسُولَيْنِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ بَعْدَ آدَمَ، عَلَى أَنَّ شِيثًا كَانَ خَلِيفَةً لَهُ فَأَوَّلِيَّتُهُ إِضَافِيَّةٌ، أَوْ أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ، فَالْأَوَّلِيَّةُ حَقِيقِيَّةٌ، وَهَذَا أَوْفَقُ الْأَقْوَالِ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ.
وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ: قَدْ ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ إِدْرِيسَ جَدُّ نُوحٍ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أُرْسِلَ أَيْضًا لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ قَبْلَ نُوحٍ ; لِإِخْبَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ بَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ جَازِمٌ قَالُوهُ، وَصَحَّ أَنْ يُحْمَلَ أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ نَبِيًّا مُرْسَلًا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ إِدْرِيسَ هُوَ إِلْيَاسُ، وَأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ، فَإِنْ كَانَ هَكَذَا سَقَطَ الِاعْتِرَاضُ، وَبِمِثْلِ هَذَا يَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ بِآدَمَ وَشِيثٍ، وَرِسَالَتُهُمَا إِلَى مَنْ مَعَهُمَا، وَإِنْ كَانَا رَسُولَيْنِ، فَإِنَّ آدَمَ أُرْسِلَ إِلَى بَنِيهِ وَلَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، وَكَذَلِكَ شِيثٌ خَلَفَهُ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ رِسَالَةِ نُوحٍ إِلَى كُفَّارِ أَهْلِ الْأَرْضِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا الْحَسَنِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ آدَمَ لَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ لِيَسْلَمَ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ نَصٌّ دَالٌّ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَإِدْرِيسَ رَسُولَانِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute