وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ) أَيْ: بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ، أَوْ فِي حَالِ السُّجُودِ (يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي) أَيِ: ارْحَمْهُمْ وَاغْفِرْ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَفَضَّلْ عَلَيْهِمْ بِالْكَرَامَةِ، وَكَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِمُ السَّابِقُونَ وَاللَّاحِقُونَ، (فَيُقَالُ: انْطَلِقْ) أَيِ: اذْهَبْ (فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ) أَيْ: وَزْنُهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِقَدْرِهَا، (مِنْ إِيمَانٍ) ، ثُمَّ الْمِثْقَالُ مَا يُوزَنُ بِهِ، مِنَ الثَّقَلِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ سَنْجٍ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ حَسَبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ، وَالتَّأْوِيلُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْرِ الْمُقَدَّرِ بِالشَّعِيرِ وَالذَّرَّةِ، وَالْحَبَّةِ وَالْخَرْدَلَةِ، غَيْرُ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ إِيمَانٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَهُوَ مَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ، وَلَمَحَاتِ الْإِيقَانِ، وَلَمَعَانِ الْعِرْفَانِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ الْخَاصُّ الْقَلْبِيُّ، وَكَذَا الْإِقْرَارُ الْمُقَرَّرُ اللِّسَانِيُّ لَا يَدْخُلُهَا التَّجْزِيءُ وَالتَّبْعِيضُ، وَلَا الزِّيَادَةُ وَلَا النُّقْصَانُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَحَمَلُوا مَا قَالَهُ غَيْرُهُمْ عَلَى الِاخْتِلَافِ اللَّفْظِيِّ وَالنِّزَاعِ الصُّورِيِّ، (فَأَنْطَلِقُ) أَيْ: فَأَذْهَبُ (فَأَفْعَلُ) أَيْ: مَا أَذِنَ لِي بِالْإِخْرَاجِ مِمَّنْ عَيَّنَ وَبَيَّنَ لِي (ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) : وَهِيَ أَقَلُّ الْأَشْيَاءِ الْمَوْزُونَةِ، وَقِيلَ: هِيَ الْهَبَاءُ الَّذِي يَظْهَرُ فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ كَرُءُوسِ الْإِبَرِ، وَقِيلَ النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ (أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوِ الشَّكِّ (فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ) : وَكَرَّرَ أَدْنَى ثَلَاثًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْقِلَّةِ (فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَيْ: وَلَوْ فِي عُمْرِهِ مَرَّةً بَعْدَ إِقْرَارِهِ السَّابِقِ ; فَإِنَّهُ مِنْ جُلَّةِ عَمَلِهِ اللَّاحِقِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ; وَلِإِطْلَاقِ حَدِيثِ: ( «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ) ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ دُخُولَهُ أَوَّلًا وَآخِرًا.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا قُدِّرَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمِثْقَالِ شَعِيرَةٍ، ثُمَّ بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ أَوْ خَرْدَلٍ، غَيْرُ الْإِيمَانِ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ التَّصْدِيقِ، وَهُوَ مَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَنْ يُرَادَ بِالثَّمَرَةِ ازْدِيَادُ الْيَقِينِ، وَطُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَدِلَّةِ أَقْوَى لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَأَثْبَتُ لِقُوَّتِهِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهَا الْعَمَلُ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِالْعَمَلِ، وَيَنْصُرُ هَذَا الْوَجْهَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ بَعْدَ هَذَا، يَعْنِي قَوْلَهُ: (وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ نَارٍ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ) .
(قَالَ) أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى (لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ هَذَا لَكَ، وَإِنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِاسْمِي وَإِجْلَالًا لِتَوْحِيدِي، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي) الْحَدِيثَ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ، وَيُحْمَلَ عَلَى حَالٍ وَمَقَامٍ آخَرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا فَسَّرْنَا مَا يَخْتَصُّ بِاللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصْدِيقِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الثَّمَرَةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْإِيمَانُ مَعَ الثَّمَرَةِ مِنِ ازْدِيَادِ الْيَقِينِ أَوِ الْعَمَلِ ; فَلَا اخْتِلَافَ. وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا الْمُحَقِّقِينَ: الْمَعْنَى لَيْسَ إِخْرَاجُ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنَ النَّارِ لَكَ، أَيْ: إِلَيْكَ، يَعْنِي مُفَوَّضًا إِلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ لَكَ فِيهِمْ مَكَانُ شَفَاعَةٍ، أَوْ لَسْنَا نَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَجْلِكَ، بَلْ لِأَنَّا أَحِقَّاءُ بِأَنَّا نَفْعَلُهُ كَرَمًا وَتَفَضُّلًا، ثُمَّ إِنَّهُ بَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي إِخْرَاجِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ مِنَ النَّارِ خَارِجٌ عَنْ حَدِّ الشَّفَاعَةِ، بَلْ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى مَحْضِ الْكِرَامِ، مُوكَلٌ إِلَيْهِ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَسْعَدُ النَّاسِ إِلَخْ، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ بِشَفَاعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي، فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ هُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنْبِيَائِهِمْ لَكِنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ، وَفِي الثَّانِي هُمْ مِنْ أُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute