للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٥٦٦٠ - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - « {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: ١١ - ١٣] قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: «رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ، قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: ١٠٣] قَالَ: وَيْحَكَ! ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، وَقَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ.»

ــ

٥٦٦٠ - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) أَيْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: ١١ - ١٣] قَالَ أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ: ( «رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ» ) . قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ أَيْ مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ مَا رَآهُ بِبَصَرِهِ مِنْ صُورَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَيْ مَا قَالَ فُؤَادُهُ لَمَّا رَآهُ لَمْ أَعْرِفْكَ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَكَانَ كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ، يَعْنِي: أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَعَرَفَهَ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ مَا رَآهُ حَقٌّ، وَقِيلَ: الْمَرْئِيُّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَآهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، وَقِيلَ بِقَلْبِهِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَ هُوَ مَذْهَبُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ دُونَ عَيْنِهِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْوَاحِدِيُّ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَإِبْرَاهِيمُ التَّمِيمِيُّ: رَآهُ بِقَلْبِهِ، وَعَلَى هَذَا رَأَى بِقَلْبِهِ رَبَّهُ رُؤْيَةً صَحِيحَةً، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ بَصَرَهُ فِي فُؤَادِهِ، أَوْ خَلَقَ لِفُؤَادِهِ بَصَرًا حَتَّى رَأَى رَبَّهُ رُؤْيَةً صَحِيحَةً كَمَا يَرَى بِالْعَيْنِ. قُلْتُ: هَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَوَجْهٌ مُسْتَحْسَنٌ يُمْكِنُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقَاتِ الْأَقْوَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ. ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَمَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ رَأَى بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَنَسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالرَّبِيعِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْفُؤَادَ رَأَى شَيْئًا فَصَدَقَ فِيهِ، وَ " مَا رَأَى " فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ أَيْ: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَرْئِيَّهُ.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ هَلْ رَأَى نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ؟ فَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى بِعَيْنِهِ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَكَعْبٍ وَالْحَسَنِ، كَانَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ، وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَحَكَى أَصْحَابُ الْمَقَالَاتِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، أَنَّهُ رَآهُ، وَوَقَفَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا. وَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ، وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ، وَرُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا جَائِزَةٌ، وَاخْتَلَفُوا أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ كَلَّمَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَمْ لَا؟ فَحُكِيَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَقَوْمٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، أَنَّهُ كَلَّمَهُ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: ٨] فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الدُّنُوَّ وَالتَّدَلِّيَ مُنْقَسِمٌ مَا بَيْنَ جِبْرِيلَ وَالنَّبِيِّ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُ دُنُوٌّ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالدُّنُوُّ وَالتَّدَلِّي عَلَى هَذَا مُتَأَوَّلٌ لَيْسَ عَلَى وَجْهٍ. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ: الدُّنُوُّ مِنَ اللَّهِ لَا حَدَّ لَهُ، وَمِنَ الْعِبَادِ بِالْحُدُودِ، فَدُنُوُّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قُرْبُهُ مِنْهُ، وَظُهُورُ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ لَدَيْهِ، وَإِشْرَاقُ أَنْوَارِ مَعْرِفَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِطْلَاعُهُ عَلَى أَسْرَارِ مَلَكُوتِهِ وَغَيْبِهِ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالدُّنُوُّ مِنَ اللَّهِ إِظْهَارُ ذَلِكَ لَهُ وَإِيصَالُ عَظِيمِ بِرِّهِ وَفَضْلِهِ إِلَيْهِ، وَقَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى عَلَى هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ لُطْفِ الْمَحَلِّ وَإِيضَاحِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِشْرَافِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنَ اللَّهِ إِجَابَةُ الرَّغْبَةِ وَإِنَابَةُ الرُّتْبَةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ: " «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا» " هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ أَوْرَدْتُ بَعْضَ الْفَوَائِدِ مِنْ هَذِهِ الرِّيَاضِ فِي رِسَالَتَيْنِ الْمِدْرَاجِ لِلْمِعْرَاجِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>