(وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ) أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ: (رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ) أَيْ بِفُؤَادِهِ؛ لِئَلَّا يُخَالِفَ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: أَيْ بِعَيْنِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْإِطْلَاقِ الْمُلَائِمِ لِمَا بَعْدَهُ مِنَ السُّؤَالِ، وَإِلَّا فَرُؤْيَةُ الْفُؤَادِ غَيْرُ مُنْكَرَةٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْكَمَالِ، وَلَا يَعْتَرِي عَلَيْهَا اعْتِرَاضٌ نَقْلًا وَلَا عَقْلًا فِي كُلِّ حَالٍ. (قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: ١٠٣] قَالَ - أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ -: (وَيْحَكَ!) كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الشَّفَقَةِ وَحَالَ خَوْفِ الْمَزْلَقَةِ (ذَاكَ) أَيِ الْإِدْرَاكُ الْكُلِّيُّ (إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ) أَيِ الْخَالِصِ (الَّذِي هُوَ نُورُهُ) أَيِ الذَّاتِيُّ، وَهَذَا الْجَوَابُ بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ أَرَادَ الرُّؤْيَةَ بِالْفُؤَادِ، وَفَهِمَ عِكْرِمَةُ خِلَافَ ذَلِكَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ رُؤْيَتَهُ بِالْعَيْنِ " هِيَ فِي الْآخِرَةِ بِالتَّجَلِّي الْخَاصِّ الْكَامِلِ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، لَكِنْ عَلَى قَدْرِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَعَدَلَا كِلَاهُمَا عَنِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ فِي الْإِدْرَاكِ، وَهُوَ الْإِحَاطَةُ الْمَنْفِيَّةُ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: ١١٠] وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ يَعْنِي دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِيطُ بِهِ وَبِحَقِيقَةِ ذَاتِهِ حَاسَّةُ الْأَبْصَارِ، وَهَذَا إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ وَظَهَرَ بِصِفَةِ الْجَلَالِ، وَأَمَّا إِذَا تَجَلَّى مِمَّا يَسَعُهُ نِطَاقُ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ صِفَاتِ الْجَمَالِ فَلَا اسْتِبْعَادَ إِذَنْ، انْتَهَى.
وَقَالَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ: فَهِمَ عِكْرِمَةُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ، أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ، لَكِنْ بِمُسَاعَدَةِ فُؤَادِهِ، فَذَلِكَ تَمَسُّكٌ بِالْآيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بِالْفُؤَادِ جَلِيَّةً كَالرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ لَمْ يَتَّجِهِ السُّؤَالُ بِالْآيَةِ، إِلَّا أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْإِدْرَاكِ الَّذِي يَكُونُ كَالْإِدْرَاكِ الْبَصَرِيِّ فِي الْجَلَاءِ، وَإِنَّمَا خَصَّ ذِكْرَ الْبَصَرِ لِأَنَّ مَحَلَّ الْإِدْرَاكِ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سُؤَالَ عِكْرِمَةَ كَانَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ - كَمَا هُوَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ - لَا عَلَى قَوْلِهِ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ، كَمَا هُوَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَحِينَئِذٍ لَا إِشْكَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمَعْنَى جَوَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، اضْمَحَلَّ الْإِدْرَاكُ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ تَجَلَّى عَلَى قَدْرِ مَا يَفِي بِإِدْرَاكِهِ الْقُوَّةُ الْبَشَرِيَّةُ، فَإِنَّهُ يُدْرَكُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ:
(وَقَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، أَوْ مُرَّةً بِفُؤَادِهِ وَمَرَّةً بِعَيْنِهِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ مَرَّتَيْنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَرِيحُ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ رُؤْيَةُ رَبِّهِ بِعَيْنِ الْبَصَرِ. وَأَمَّا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ إِثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ فَقَالَ: الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً، لَكُنَّا لَا نَتَمَسَّكُ إِلَّا بِالْأَقْوَى. مِنْهَا «حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْكَلَامُ لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - قُلْتُ: لَيْسَ فِي كَلَامِهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةُ الْبَصِيرَةِ مِنْ خَصَائِصِهِ أَيْضًا، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ لَا يَكُونَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُصِفَتِ الْخُلَّةُ وَنُعِتَ الْكَلَامُ، مَعَ أَنَّهُمَا ثَابِتَانِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ الْأَعْلَامُ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَبْرِ الْأُمَّةِ، وَالْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ فِي الْمُعْضِلَاتِ، وَقَدْ رَاجَعَهُ ابْنُ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ رَبَّهُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَآهُ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَكَذَا سُؤَالُ عِكْرِمَةَ نَاشِئًا عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: ١٣] هَلِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى جِبْرِيلَ أَوْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَآهُ أَيْ بِفُؤَادِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِأَنَّهَا لَمْ تُخْبِرْ أَنَّهَا سَمِعَتْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَرَى رَبِّي. قَلْتُ: وَكَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ رَبِّي مُطْلَقًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِعَيْنِ الْبَصَرِ. قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ مَا ذَكَرَتْ مُتَأَوِّلَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} [الشورى: ٥١] الْآيَةَ، وَلِقَوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: ١٠٣] قُلْتُ: هَاتَانِ الْآيَتَانِ سَنَدَانِ لِمَنْعِهِمَا عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَيْضًا مُتَأَوِّلٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ. قَالَ: وَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute