عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى إِثْبَاتِهَا، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَيُؤْخَذُ بِالظَّنِّ، وَإِنَّمَا يُتَلَقَّى بِالسَّمَاعِ وَلَا يَسْتَجِيرُ أَحَدٌ أَنْ يَظُنَّ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالظَّنِّ وَالِاجْتِهَادِ. قُلْتُ: الرُّؤْيَةُ بِبَصَرِ الْعَيْنِ غَيْرُ مُصَرَّحَةٍ عَنْهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْآيَةِ التَّسْلِيمُ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ نَشَأَ مِنْ بَابِ اجْتِهَادِهِ وَأَخْذِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْآيَةِ. قَالَ: وَقَدْ قَالَ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ حِينَ ذَكَرَ اخْتِلَافَ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: عَائِشَةُ مَا عِنْدَنَا بِأَعْلَمَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قُلْتُ: هَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُنَاقَشَةِ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً تَامَّةً، مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْفَرِدَةً فِي هَذَا الْبَابِ، بَلْ يُوَافِقُهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ التَّعَارُضِ وَتَسَاقُطِ التَّنَاقُضِ يَثْبُتُ كَلَامُهَا وَيَتَحَقَّقُ مَرَامُهَا. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَثْبَتَ شَيْئًا نَفَاهُ غَيْرُهُ، وَالْمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. قُلْتُ: هَذَا إِذَا كَانَ الْإِثْبَاتُ مُسْتَنِدًا إِلَى حَسَنٍ، وَإِلَّا فَمِنْ آدَابِ الْبَحْثِ أَنَّ كَلَامَ الْمَانِعِ مُعْتَبَرٌ، لَا سِيَّمَا مَعَ سَنَدِ الْمَنْعِ، حَتَّى يَأْتِيَ الْخَصْمُ بِبُرْهَانٍ جَلِيٍّ، إِذِ الْأَصْلُ هُوَ الْعَدَمُ، فَالْوُجُودُ يَحْتَاجُ إِلَى تَحَقُّقٍ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍ مِنَ النَّقْلِ أَوِ الْعَقْلِ. هَذَا آخِرُ كَلَامِ صَاحِبِ التَّحْرِيرِ.
وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ التَّقْرِيرِ، فَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: الْحَاصِلُ أَنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَإِثْبَاتُ هَذَا لَيْسَ إِلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَكَّ فِيهِ. قُلْتُ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْزَمَ بِهِ أَيْضًا؛ لِعَدَمِ ثُبُوتِ السَّمَاعِ أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ لَا يَكُونَ طَرِيقُهُ قَطْعًا وَفَصْلًا، وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ لِلْأَقَلِّ أَوْ لِلْأَكْثَرِ، فَتَأَمَّلْ وَتَدَبَّرْ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَنْفِ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا لَذَكَرَتْهُ. قُلْتُ: وَكَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يُثْبِتِ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ لَذَكَرَهُ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ إِطْلَاقِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. لَوْ ثَبَتَ النَّقْلُ صَرِيحًا عَنْهُ مِنْ إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ بِعَيْنِ الْبَصَرِ، وَقَدْ عُلِمَ أَيْضًا مِمَّا سَبَقَ أَنْ عَائِشَةَ مَانِعَةٌ لِلرُّؤْيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَا ذَكَرَتْهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّمَا هِيَ سَنَدُ مَنْعِهَا لِلتَّقْوِيَةِ وَلَيْسَتْ مُسْتَدِلَّةً حَتَّى يُقَالَ فِي حَقِّهَا مَا قَالَ، وَإِنَّمَا اعْتَمَدَتْ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الْآيَاتِ، أَمَّا احْتِجَاجُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: ١٠٣] فَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ الْإِحَاطَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُحَاطُ بِهِ، فَإِذَا وَرَدَ النَّصُّ بِنَفْيِ الْإِحَاطَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ. قُلْتُ: سَبَقَ سُؤَالُ عِكْرِمَةَ مُطَابِقًا لِمَا فَهِمَتْ عَائِشَةُ مِنَ الْآيَةِ. وَكَذَا تَقْرِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْمَعْنَى، وَجَوَابُهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَبْنَى، وَإِنْ كَانَ هَذَا جَوَابًا حَسَنًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ: وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} [الشورى: ٥١] الْآيَةَ. فَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الرُّؤْيَةِ وُجُودُ الْكَلَامِ حَالَ الرُّؤْيَةِ، فَيَجُوزُ وُجُودُ الرُّؤْيَةِ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى أُخِذَ مِنْ سِيَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى - فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: ٩ - ١٠] حَيْثُ اسْتَدَلَّ الْخَصْمُ بِهِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ كَمَالِ الْقُرْبِ وَالْوَحْيِ الْخَاصِّ الْمُرَادِ بِهِ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَدَفَعْتُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: ٥١] أَيْ بِالْإِلْقَاءِ بِالْقَلْبِ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَيْ أَوْ تَكْلِيمًا ظَاهِرًا يُدْرِكُهُ سَمْعُ الْقَالَبِ، لَكِنْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ: اعْلَمْ أَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ، وَجَعَلَ بَصَرَهُ فِي فُؤَادِهِ، أَوْ رَآهُ بِبَصَرِهِ وَجَعَلَ فُؤَادَهُ فِي بَصَرِهِ، وَكَيْفَ لَا، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ الرُّؤْيَةُ بِالْإِرَاءَةِ لَا بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ، فَإِذَا حَصَّلَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ مِنْ طَرِيقِ الْبَصَرِ كَانَ رُؤْيَةً بِالْإِرَاءَةِ، وَإِنْ حَصَّلَ مِنْ طَرِيقِ الْقَلْبِ كَانَ مَعْرِفَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمَ بِخَلْقٍ مُدْرِكٍ لِلْعُلُومِ فِي الْبَصَرِ، كَمَا قَدَّرَ أَنْ يُحَصِّلَهُ بِخَلْقٍ مُدْرِكٍ لِلْعُلُومِ فِي الْقَلْبِ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَاخْتِلَافُ الْوُقُوعِ مِمَّا يُنْبِئُ عَنِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْجَوَازِ. انْتَهَى. وَهُوَ غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَنِهَايَةُ التَّدْقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute