للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

( «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى» ) يَعْنِي فَإِنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادَرَ أَنَّ ضَمِيرَ " دَنَا " إِلَى اللَّهِ وَضَمِيرَ " فَتَدَلَّى " إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بِالْعَكْسِ كَمَا سَبَقَ، وَكَذَا ضَمِيرُ " فَكَانَ " إِلَى أَحَدِهِمَا، وَقَدْ قَالَ بَعْدَهُ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: ١٠] وَبِمَا قَرَّرْنَا يَتِمُّ اسْتِشْكَالُ مَسْرُوقٍ. (قَالَتْ: ذَاكَ) أَيْ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي الْكُلِّ (جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) ، أَيْ لَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لِبَيَانِ دَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَائِمًا، فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ ذِكْرِ رُؤْيَتِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ؟ فَقَالَتْ: (كَانَ) أَيْ جِبْرِيلُ (يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ) أَيْ مُتَشَكِّلًا بِشَكْلِهِ، وَغَالِبًا بِصُورَةِ دَحْيَةَ (وَإِنَّهُ أَتَاهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ) أَيْ فِي أَجْيَادٍ ( «فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ» ) ، أَيِ الْأَصْلِيَّةِ (فَسَدَّ الْأُفُقَ) ، أَيْ عَلَى نَحْوِ مَا رَآهُ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ فِي صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ، هَذَا وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخَذَ بِقَوْلِ كَعْبٍ، وَاخْتَارَهُ أَنَّهُ رَآهُ مَرَّتَيْنِ عَلَى احْتِمَالِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ بِعَيْنِ الْبَصَرِ أَوِ الْبَصِيرَةِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا بِهَذِهِ وَالْأُخْرَى بِأُخْرَى، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ مَرَّتَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَأَمَّا نَفْيُ عَائِشَةَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ يُقَيَّدَ بِنَفْيِ الْبَصَرِ وَجَوَازِ رُؤْيَتِهِ بِالْفُؤَادِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ، فَتَدَبَّرْ وَتَأَمَّلْ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْجَمْعُ بَيْنَ إِثْبَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَفْيِ عَائِشَةَ بِأَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهَا عَلَى رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، وَإِثْبَاتُهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، لَا مُجَرَّدِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَالِمًا بِهِ تَعَالَى عَلَى الدَّوَامِ، وَأَنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ خُلِقَتْ لَهُ فِي قَلْبِهِ، كَمَا تُخْلَقُ الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ لِغَيْرِهِ، وَالرُّؤْيَةُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا شَيْءٌ مَخْصُوصٌ عَقْلًا، وَلَوْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِخَلْقِهَا فِي الْعَيْنِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>