للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

(الْبُشْرَى) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيِ الْبِشَارَةُ الْمُطْلَقَةُ أَوِ الْمَعْهُودَةُ (يَا بَنِي تَمِيمٍ) أَوْ هُوَ لَمَّا لَمْ يَفْهَمُوا الْإِشَارَةَ بِالْبِشَارَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ اسْتِقْبَالِهَا بِالْقَبُولِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ حُصُولُ كُلِّ وُصُولٍ. (قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا) فَحَمَلُوا الْبِشَارَةَ عَلَى الْإِحْسَانِ الْعُرْفِيِّ، فَطَلَبُوا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَطَاءِ الْحَسَنِ، وَهَذَا بِمُقْتَضَى مَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ حَبِّ الدُّنْيَا الْعَاجِلَةِ، وَغَفْلَتِهِمْ عَنِ الْمَرَاتِبِ الْآجِلَةِ، فَكُلُّ إِنَاءٍ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، وَيَبِينُ عَنْ ذَلِكَ الْبِنَاءِ مُعَايَنَةً، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ مَنْهَجَهُمْ وَمَذْهَبَهُمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيِ اقْبَلُوا مِنِّي مَا يَقْتَضِي أَنْ تُبَشَّرُوا بِالْجَنَّةِ مِنَ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ جُلُّ اهْتِمَامِهِمْ إِلَّا بِشَأْنِ الدُّنْيَا وَالِاسْتِعْطَاءِ دُونَ دِينِهِمْ قَالُوا: بَشَّرْتَنَا لِلتَّفَقُّهِ، وَإِنَّمَا جِئْنَا لِلِاسْتِعْطَاءِ فَأَعْطِنَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ ".

وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بَشَّرْتَنَا هُوَ دَالٌّ عَلَى إِسْلَامِهِمْ، وَإِنَّمَا رَامُوا الْعَاجِلَ، وَغَفَلُوا عَنِ الْآجِلِ، وَسَبَبُ غَضَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَفْيِهِ قَبُولَهُمُ الْبُشْرَى إِشْعَارُهُ بِقِلَّةٍ عِلْمِهِمْ وَضَعْفِ قَابِلِيَّتِهِمْ؛ لِكَوْنِهِمْ عَلَّقُوا آمَالَهُمْ بِعَاجِلِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَقَدَّمُوا ذَلِكَ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ الْمُوَصِّلِ إِلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمِ اهْتِمَامَهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْ حَقَائِقِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَالِاعْتِنَاءِ بِضَبْطِهَا، وَالسُّؤَالِ عَنْ وَاجِبَاتِهَا وَالْمُوَصِّلَاتِ إِلَيْهَا. ( «فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: " اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ. قَالُوا: قَبِلْنَا، جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ» ) أَيْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: ١٢٢] وَلَمَّا كَانَ نِيَّتُهُمُ الصَّالِحَةُ خَالِصَةً لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ لَا لِلطَّمَعِ فِي الدُّنْيَا حَصَلَ لَهُمُ الْبِشَارَةُ وَالْقَبُولُ وَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ وَالْوُصُولُ، وَحُرِمَ الْأَوَّلُونَ عَنِ الْبِشَارَةِ، بَلْ وَعَنِ الْعَطَاءِ فِي الْحَقَارَةِ، وَوَقَعُوا فِي حَضِيضِ النِّذَارَةِ، فَالْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْغَالِيَةِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحِكَايَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ: أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ الْمُطَهَّرَةِ عَلَى قَصْدِ زِيَارَةِ تُرْبَةِ الْأَمِينِ حَمْزَةَ الْمُنَوَّرَةِ، وَتَبِعَهُ رَجُلٌ، فَفُتِحَ لَهُمَا بَابُ الْمَقْبَرَةِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ، وَدَخَلَ الشَّيْخُ فِي مَحَلِّ الزِّيَارَةِ، فَرَأَى جَمَاعَةً مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ بَرِيئَةً مِنَ النُّقْصَانِ وَالْعَيْبِ، فَعَرَفَ أَنَّهُ سَاعَةُ الْإِجَابَةِ، فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي تَبِعَهُ مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ رَحْمَةً وَشَفَقَةً عَلَيْهِ: يَا أَخِي اطْلُبْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَا تُرِيدُ، فَإِنَّ الْآنَ وَقْتَ الْإِجَابَةِ وَالْمَزِيدِ، فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى دِينَارًا وَلَمْ يَذْكُرْ جَنَّةً وَلَا نَارًا، فَرَجَعَا وَلَمَّا وَصَلَا بَابَ الْمَدِينَةِ أَعْطَى الرَّجُلَ دِينَارًا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّكِينَةِ، فَدَخَلَا كِلَاهُمَا عَلَى الْقُطْبِ الْوَلِيِّ السَّيِّدِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ، وَقَدْ كُشِفَ لَهُ الْقَضِيَّةُ فَقَالَ لِلرَّجُلِ: أَيَا دَنِيَّ الْهِمَّةِ تُدْرِكُ وَقْتَ الْإِجَابَةِ، وَتَطْلُبُ قِطْعَةَ دِينَارٍ دَنِيَّةٍ، فَهَلَّا طَلَبْتَ كَأَبِي الْعَبَّاسِ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ لِيَكُونَا لِأَمْرِ دِينِكَ وَدُنْيَاكَ كَافِيَةٌ وَوَافِيَةٌ؟ ثُمَّ مَا أَحْسَنَ طَرِيقَ سُؤَالِهِمْ مِنَ الِابْتِدَاءِ فِي أَوَّلِ حَالِهِمُ الدَّالِّ عَلَى كَمَالِ مَآلِهِمْ حَيْثُ قَالُوا: (وَلِنَسْأَلَكَ) أَيْ وَجِئْنَاكَ لِنَسْأَلَكَ (عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ) أَيْ أَمْرِ الْخَلْقِ وَمَبْدَأِ الْعَالَمِ (مَا كَانَ؟) أَيْ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ أَوَّلَ هَذَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " مَا " فِي " مَا كَانَ " اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ أَوَّلَ الْأَمْرِ، وَكُرِّرَ السُّؤَالُ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ (قَالَ: " كَانَ اللَّهُ) أَيْ فِي أَزَلِ الْآزَالِ كَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَبَدِ الْآبَادِ، بِلَا وَصْفِ التَّغَيُّرِ وَالْحُدُوثِ عَلَى مَا هُوَ نَعْتُ الْعِبَادِ، فَإِنَّ مَا ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ. (وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ) أَيْ لِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُوجِدُهُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ مَوْجُودٍ مُمْكِنٍ قَبْلَ الْمُوجِدِ الْوَاجِبِ الْوُجُودَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا شَيْءَ قَبْلَهُ، مُكَرِّرٌ الْجَوَابَ عَلَى طَرِيقِ السُّؤَالِ مُطَابَقَةً فِي الِاهْتِمَامِ بِالْحَالِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ أَوَّلُ قَدِيمٍ بِلَا ابْتِدَاءٍ، كَمَا أَنَّهُ كُرَّرَ آخِرُ كَرِيمٍ بِلَا انْتِهَاءٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>