للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ حَالٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّ خَبَرٌ، وَالْمَعْنَى: يُسَاعِدُهُ؛ إِذِ التَّقْدِيرُ: كَانَ اللَّهُ فِي الْأَزَلِ مُنْفَرِدًا مُوَحَّدًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ دُخُولَ الْوَاوِ فِي خَبَرِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا نَحْوَ كَانَ زَيْدٌ وَأَبُوهُ قَائِمٌ عَلَى جَعْلِ الْجُمْلَةِ خَبَرًا مَعَ الْوَاوِ تَشْبِيهًا لِلْخَبَرِ بِالْحَالِ. أَقُولُ: وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الْأَوَّلِ، فَبَيَّنَ لَهُمُ الْأَوَّلِيَّةَ الْأَزَلِيَّةَ وَنَفَى لِغَيْرِهِ الْقَبْلِيَّةَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ؛ وَلِهَذَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ قَالُوا: وَالْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ، لِأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ الْمُمْكِنِ فِي جَنْبِ وُجُودِ الْوَاجِبِ كَلَا شَيْءٍ؛ وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ. وَقَالَ آخَرُ: سِوَى اللَّهِ وَاللَّهِ مَا فِي الْوُجُودِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا هِيَ مَظَاهِرُ صِفَاتِهِ وَمَرَامِي ذَاتِهِ، فَقَدْ رُوِيَ: كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًّا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ، فَخَلَقْتُ الْخَلْقَ لِأُعْرَفَ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ عَلَى تَفْسِيرِ حَبْرِ الْأُمَّةِ أَيْ لِيَعْرِفُونِ.

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا فَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَا امْتِزَاجَ لَهُ بِالْفَصْلِ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُ: ( «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» ) لِمَا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ مِنَ الْمُنَافَاةِ، فَإِنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ " وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدْ نَاقَضْتَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ مَنْ لَمْ يَسْبِقْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يُعَارِضْهُ فِي الْأَوَّلِيَّةِ، وَقَدْ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: " «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» " إِلَى أَنَّهُمَا كَانَا مَبْدَأَ التَّكْوِينِ، وَأَنَّهُمَا كَانَا مَخْلُوقَيْنِ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْعَرْشِ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا الْمَاءُ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَمُمْسِكُهُ بِقُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَادَ الشَّيْخُ بِمَا قَالَهُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ جُعِلَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ لَزِمَ الْمَحْذُورُ، فَإِذَا جُعِلَ مُسْتَقِلًّا وَعُطِفَ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأُولَى فَلَا، فَإِذَنْ لَفْظَةُ " كَانَ " فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِحَسَبِ حَالِ مَدْخُولِهِمَا، فَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْأَزَلِيَّةُ وَالْقِدَمُ، وَبِالثَّانِي الْحُدُوثُ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ عَطْفٌ عَلَى مَجْمُوعِ قَوْلِهِ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ» ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ حُصُولِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الْوُجُودِ وَتَفْوِيضِ التَّرْتِيبِ إِلَى الذِّهْنِ، قَالُوا: (وَ) . بِمَنْزِلَةِ (ثُمَّ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَاءِ مَاءُ الْبَحْرِ، بَلْ هُوَ مَا تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَالْمَاءُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ، وَالرِّيحُ قَائِمَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: خُلِقَ الْعَرْشُ وَالْمَاءُ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ خَلَقَهُمَا مِنَ الْمَاءِ بِأَنْ تَجَلَّى عَلَى الْمَاءِ فَتَمَوَّجَ وَاضْطَرَبَ وَحَصَلَ لَهُ زَبَدٌ، فَاجْتَمَعَ فِي مَحَلِّ الْكَعْبَةِ الشَّرِيفَةِ، وَلِذَا سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى، ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهَا، ثُمَّ أَلْقَى الْجِبَالَ عَلَيْهَا لِئَلَّا تَمِيدَ، وَأَوَّلُ الْجِبَالِ أَبُو قُبَيْسٍ عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ، وَطَلَعَ دُخَانٌ مِنْ تَمَوُّجِ الْمَاءِ إِلَى جَانِبِ السَّمَاءِ، فَخُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ مِنْهَا، وَمُجْمَلَةٌ فِي سُورَةِ حم فُصِّلَتْ أَوْ تَفْصِيلُهُ فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ وَسِيَرِ الْمُؤَرِّخِينَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.

(وَكَتَبَ) أَيْ أَثْبَتَ جَمِيعَ مَا هُوَ كَائِنٌ (فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ) أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَالَ الرَّاوِي: ( «ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ» ) أَيِ الْحَقْهَا (فَقَدْ ذَهَبَتْ) أَيْ مُنْفَلِتَةٌ (فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُ) حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (وَايْمُ اللَّهِ) بِفَتْحِ هَمْزِ وَصْلٍ أَوْ قَطْعٍ وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ وَمِيمٍ مَضْمُومَةٍ مُضَافَةٍ إِلَى الْجَلَالَةِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَلَيْسَتْ جَمْعًا. قَالَ شَارِحٌ: ايْمُ اللَّهِ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِلْقَسَمِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَهَمْزَتُهُ لِلْوَصْلِ، وَلَمْ يَجِئْ فِي الْأَسْمَاءِ أَلِفُ الْوَصْلِ مَفْتُوحَةً غَيْرُهَا، وَتَقْدِيرُهُ ايْمُ اللَّهِ قَسَمِي، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ هُوَ مَحْذُوفُ " أَيْمُنٍ " جَمْعُ يَمِينٍ وَهَمْزَتُهُ لِلْقَطْعِ (لَوَدِدْتُ) أَيْ لَتَمَنَّيْتُ (أَنَّهَا) أَيِ النَّاقَةُ (قَدْ ذَهَبَتْ) أَيْ فُقِدَتْ (وَلَمْ أَقُمْ) أَيْ فِي طَلَبِهَا الْمَانِعِ مِنْ سَمَاعِ بَقِيَّةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَهْلِ الْيَمَنِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>