بِهِ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ إِلَّا لِذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ، وَيَرَى أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتِ الزَّوْجَ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنَ السُّلْطَانِ، بَلْ يَكُونُ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ زَوْجِهَا، فَأَمَّا اللَّاتِي لَا أَزَوَاجَ لَهُنَّ، فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِنَّ إِلَّا إِذَا رَضِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَلْزَمَنِي بِالطَّلَاقِ، أَوْ قَصَدَ قَتْلِي حِرْصًا عَلَيْكِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ دِينَ الْمَلِكِ أَنْ لَا يَحِلَّ لَهُ التَّزَوُّجَ وَالتَّمَتُّعَ بِقَرَابَاتِ الْأَنْبِيَاءِ.
(فَأَرْسَلَ) أَيِ: الْجَبَّارُ (إِلَيْهَا) أَيْ: إِلَى سَارَةَ يَطْلُبُهَا (فَأُتِيَ بِهَا) أَيْ: جِيءَ بِهَا إِلَى الْجَبَّارِ (قَامَ إِبْرَاهِيمُ: اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: فَمَاذَا فَعَلَ بَعْدُ؟ فَأُجِيبَ: قَامَ إِبْرَاهِيمُ (يُصَلِّي) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ أَيْ: لِيُصَلِّيَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: ٤٥] كَمَا «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى» عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ حُذَيْفَةَ: (فَلَمَّا دَخَلَتْ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ وَفِي نُسْخَةٍ: أُدْخِلَتْ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْجَبَّارِ (ذَهَبَ) أَيْ: طَفِقَ (يَتَنَاوَلُ) أَيْ: يَأْخُذُهَا وَيَمَسُّهَا (بِيَدِهِ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، أَوْ بَعْدَ سُؤَالِهَا وَسَمَاعِ جَوَابِهَا، لَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَيْلُ إِلَيْهَا لِكَمَالِ حُسْنِهَا وَجَمَالِهَا. (فَأُخِذَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا أَيْ: حُبِسَ نَفَسُهُ وَضُغِطَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخَنْقُ هَاهُنَا. أَيْ: أُخِذَ بِمَجَارِي نَفْسِهِ حَتَّى سُمِعَ لَهُ غَطِيطٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَأُخِذَ بِبِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: حُبِسَ عَنْ إِمْسَاكِهَا، أَوْ عُوقِبَ بِذَنْبِهِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الْخَاءِ. قَالَ شَارِحٌ: وَيُرْوَى أُخِذَ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّأْخِيذِ، وَهُوَ اسْتِجْلَابُ قَلْبِ شَخْصٍ بِرُقْيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، كَالسِّحْرِ بِحَيْثُ يَصِلُ لَهُ خَرَفٌ أَوْ هَيَمَانٌ أَوْ جُنُونٌ عَلَى مَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَيُؤَيِّدُ رِوَايَةَ التَّخْفِيفِ قَوْلُ الْمُؤَلِّفِ: (وَيُرْوَى) أَيْ: بَدَلَ يَأْخُذُ أَوْ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ (فَغُطَّ) : بِضَمِّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ طَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ: خُنِقَ (حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ) أَيْ: ضَرَبَ بِرِجْلَيْهِ الْأَرْضَ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: حُصِرَ حَصْرًا شَدِيدًا. وَقِيلَ: الْغَطُّ هُنَا بِمَعْنَى الْخَنْقِ. أَيْ: أُخِذَ بِمَجَامِعِ مَجَارِي نَفَسِهِ حَتَّى يُسْمَعُ لَهُ غَطِيطُ نَخِيرٍ وَهُوَ صَوْتٌ بِالْأَنْفِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ أَيِ: اخْتَنَقَ حَتَّى صَارَ كَالْمَصْرُوعِ، (فَقَالَ: ادْعِي) أَيْ: سَلِي (اللَّهَ لِي) أَيْ: لِأَجْلِيَ الْخَلَاصَ (وَلَا أَضُرُّكِ) أَيْ: بِالتَّعَرُّضِ لَكِ (فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ) أَيْ: مِنَ الْأَخْذِ (ثُمَّ تَنَاوَلَ) أَيْ: أَرَادَ تَنَاوُلَهَا (الثَّانِيَةَ) أَيِ: الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ (فَأُخِذَ مِثْلَهَا) أَيْ: مِثْلَ الْأَخْذَةِ الْأُولَى (أَوْ أَشَدَّ) أَيْ: بَلْ أَشَدَّ مِنْهَا (فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ، فَأُطْلِقَ فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ) : بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ حَاجِبٍ كَطَلَبَةٍ جَمْعُ طَالِبٍ (فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِينِي بِإِنْسَانٍ) أَيْ: حَتَّى أَقْدِرَ عَلَيْهَا (إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ) أَيْ: حَيْثُ لَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهَا، بَلْ تَصْرَعُنِي، وَتُرِيدُ أَنْ تُهْلِكَنِي.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ بِهِ الْمُتَمَرِّدَ مِنَ الْجِنِّيِّ، وَكَانُوا يَهَابُونَ الْجِنَّ وَيُعَظِّمُونَ أَمْرَهُمْ، (فَأَخْدَمْهَا هَاجَرَ) أَيْ: جَعَلَ الْجَبَّارُ هَاجَرَ خَادِمَةً لِسَارَةَ لَمَّا رَأَى كَرَامَتَهَا وَقُرْبَهَا عِنْدَ اللَّهِ، أَوْ جَبْرًا لِمَا وَقَعَ مِنْ كَسْرِ خَاطِرِهَا حَيْثُ تَعَرَّضَ لَهَا، (فَأَتَتْهُ) أَيْ: إِبْرَاهِيمَ (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي) : وَهُوَ إِمَّا لِعَدَمِ إِطْلَاعِهِ عَلَى خَلَاصِهَا اسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ، أَوِ انْكَشَفَ لَهُ الْأَمْرُ، وَزَادَ فِي الْعِبَادَةِ لِيَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا بَعْدَمَا كَانَ عَبْدًا صَبُورًا، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: (فَأَوْمَأَ) : بِهَمْزَتَيْنِ أَيْ: أَشَارَ إِبْرَاهِيمُ (بِيَدِهِ) أَيْ: إِلَى سَارَةَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ (مَهْيَمْ) ؟ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مَرَّتَيْنِ أَيْ: مَا شَأْنُكِ وَمَا حَالُكِ؟ وَهِيَ كَلِمَةٌ يَمَانِيَةٌ يُسْتَفْهَمُ بِمَا، وَهَاهُنَا مُفَسِّرَةٌ لِلْإِيمَاءِ أَيْ: أَوْمَأَ بِيَدِهِ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهَا مَعْنَاهُ، وَلَيْسَتْ بِتَرْجَمَةٍ لِقَوْلِهِ: وَإِلَّا لَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ وَقَالَ: مَهْيَمْ؟ (قَالَتْ: رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ فِي نَحْرِهِ) أَيْ: عَلَى صَدْرِهِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: ٤٣] وَمِنْ قَبِيلِ الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: «اللَّهُمَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute