وَإِنْ كَانُوا مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ لَا يُنَازِلُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ، فَإِنَّهُمْ بَشَرٌ يَطْرَأُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ، فَلَا تَعُدُّوا ذَلِكَ مَنْقَصَةً، وَلَا تَحْسَبُوهُ سَيِّئَةً. قُلْتُ: هَذَا مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَضِيَّةِ سَيِّدِنَا لُوطٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ إِخْبَارًا عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَضَجُّرِهِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ، بَلْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَدْحِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَرْكِهِ الِاسْتِعْجَالَ بِالْخُرُوجِ لِيَزُولَ عَنْ قَلْبِ الْمَلِكِ مَا اتُّهِمَ بِهِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَلَا يَنْظُرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ مَشْكُوكٍ. انْتَهَى. وَهُوَ بِعَيْنِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، وَقِيلَ: بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَقْصِيرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الْوَسَائِطَ، وَلَمْ يُفَوِّضْ كُلَّ مَا آتَاهُ إِلَيْهِ تَعَالَى.
قُلْتُ: سَبَقَ أَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَسْبَابِ لَا تُنَافِي تَفْوِيضَ الْأَمْرِ إِلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ مَرْتَبَةَ جَمْعِ الْجَمْعِ هِيَ مُبَاشَرَةُ السَّبَبِ مَعَ مُلَاحَقَةِ عَمَلِ الرَّبِّ، وَقِيلَ: بَلْ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَقْصِيرِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا، وَلِذَا دَعَا أَهْلَ السِّجْنِ بِقَوْلِهِ: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} [يوسف: ٣٩] إِلَخْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى عَوْدَةِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَدَّمَ بَرَاءَةَ نَفْسِهِ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ، وَهُوَ دَعْوَةُ الْمَلِكِ.
قُلْتُ: وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ إِذْ تَقْدِيرُ تَسْلِيمِ كَوْنِهِ رَسُولًا عَامًّا أَوْ خَاصًّا، فَتَقَدَّمَ مَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِرْسَالِ مِنَ الْبَرَاءَةِ عَلَيْهِ مِمَّا يَجِبُ الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ، لِئَلَّا يَدُورَ طَعْنُ الطَّاعِنِ حَوَالَيْهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَرَّرْنَاهُ، وَعَلَى حَقِيقَةِ مَا حَرَّرْنَاهُ، مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «رَحِمَ اللَّهُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ كَانَ لَذَا أَنَاةٍ حَلِيمًا، لَوْ كُنْتُ أَنَا الْمَحْبُوسُ ثُمَّ أُرْسِلَ إِلَيَّ لَخَرَجْتُ سَرِيعًا» ) . وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فِي (الزُّهْدِ) ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا: ( «رَحِمَ اللَّهُ أَخِي يُوسُفَ لَوْ أَنَا أَتَانِيَ الرَّسُولُ بَعْدَ طُولِ الْحَبْسِ لَأَسْرَعْتُ الْإِجَابَةَ حِينَ قَالَ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} [يوسف: ٥٠] » كَذَا فِي (الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute