للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَفِي بَعْضِ (نُسَخِ الْمَصَابِيحِ) : «نَحْنُ أَحَقُّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» بِدُونِ قَوْلِهِ بِالشَّكِّ، فَفَالَ شَارِحٌ لَهُ أَيْ: نَحْنُ أَحَقُّ مِنْهُ بِالسُّؤَالِ الَّذِي سَأَلَهُ يُرِيدُ بِهِ تَعْظِيمَ أَمْرِهِ، وَأَنَّ سُؤَالَهُ هَذَا لَمْ يَكُنْ لِنُقْصَانٍ فِي عَقِيدَتِهِ، بَلْ لِكَمَالِ فِكْرَتِهِ، وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ الطَّالِبَةِ لِحُصُولِ الِاطْمِئْنَانِ بِالْوُصُولِ إِلَى دَرَجَةِ الْعِيَانِ.

قَالَ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ» ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْ: لَمْ يَكُنْ صُدُورُ هَذَا السُّؤَالِ مِنْهُ شَكًّا مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَاخْتَلَجَ فِي صَدْرِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ الشَّكُّ يَعْتَرِيهِ لَنَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْهُ، وَلَكِنَّا لَا نَشُكُّ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَشُكَّ هُوَ فِيهِ؟ أَقُولُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ لَيْسَ صِيغَةُ التَّعْظِيمِ، لِيَحْتَاجَ إِلَى الِاعْتِذَارِ بِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا لِإِبْرَاهِيمَ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ مَعَ أُمَّتِي لَا تَشُكُّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، بَلْ نَحْنُ مُعَاشِرَ الْخَلْقِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ غَالِبًا نَعْتَقِدُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَكْمَلِ الْأَنْبِيَاءِ فِي مَرْتَبَةِ التَّوْحِيدِ، وَمَقَامِ التَّفْرِيدِ حَتَّى أَمَرَنَا بِمُتَابَعَتِهِ عَلَى طَرِيقِهِ الْقَوِيمِ وَسَبِيلِهِ الْمُسْتَقِيمِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الشَّكُّ؟ إِذْ لَوْ جَازَ عَلَيْهِ الشَّكُّ، وَهُوَ مِنَ الْمَعْصُومِينَ الْمَتْبُوعِينَ لَجَازَ لَنَا بِالْأَوْلَى، وَنَحْنُ مِنَ اللَّاحِقِينَ التَّابِعِينَ. وَالْحَالُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالدَّلِيلِ الْبُرْهَانِيِّ نَفْيَ الشَّكِّ عَنِ الْخَلِيلِ الرَّحْمَانِيِّ، وَإِيصَالِهِ إِيَّاهُ إِلَى الْمَقَامِ الِاطْمِئْنَانِيِّ، وَالْحَالِ الْعَيَانِيِّ.

(وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا) : قِيلَ: تَصْدِيرُ الْكَلَامِ هَذَا الدُّعَاءَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اعْتِرَاءُ نَقْصٍ عَلَيْهِ فِيمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: ٤٣] حَيْثُ كَأَنَّهُ تَمْهِيدٌ وَمُقَدِّمَةٌ لِلْخِطَابِ الْمُزْعِجِ. (لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) ، أَيْ عَشِيرَةٍ قَوِيَّةٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُقُوعِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ. وَقَالَ شَارِحٌ تَبَعًا لِلْقَاضِي: وَكَأَنَّهُ اسْتَغْرَبَ مِنْهُ وَعَدَّهُ بَادِرَةً، إِذْ لَا رُكْنَ أَشَدَّ مِنَ الرُّكْنِ الَّذِي كَانَ يَأْوِي إِلَيْهِ، وَهُوَ عِصْمَةُ اللَّهِ وَحِفْظُهُ، وَعِنْدِي أَنَّ أَخْذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذَا الْمَبْنَى لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ الْأَدَبِ فِي الْإِنْبَاءِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ يَنْهَى عَنْ غِيبَةِ أَفْرَادِ الْعَامَّةِ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَذْكُرَ فِي حَقِّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ مَا يَكُونُ مُوهِمًا لِنَقْصِ مَرْتَبَتِهِ، أَوْ تَنَزُّلًا عَنْ عُلُوِّ هِمَّتِهِ؟ فَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ يَمِيلُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْعَشِيرَةِ الْقَوِيَّةِ، فَيَجُوزُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ الْمِحَالِ، فَإِنَّا مَأْمُورُونَ بِمُتَابَعَةِ أَرْبَابِ الْكَمَالِ فِي التَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ مَعَ الِاعْتِمَادِ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ثُمَّ رَأَيْتُ فِي (الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) مَا يُقَوِّي الْمَذْكُورَ مِنَ التَّقْرِيرِ وَالتَّحْرِيرِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " «رَحِمَ اللَّهُ لُوطًا كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَمَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ» ". قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: ٩١] وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُعَظَّمًا وَمَحْمِيًّا وَمُكَرَّمًا لِقُرْبِهِ مِنْ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِيمَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: ٦] وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ أَيْ: مِقْدَارَ طُولِ زَمَنِ لُبْثِهِ وَجَاءَنِي دَاعٍ بِالطَّلَبِ أَوْ سَاعٍ إِلَى الْخُرُوجِ (لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ) . أَيْ وَلَبَادَرْتُ الْخُرُوجَ عَمَلًا بِالْجَوَازِ. لَكِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَبَرَ لِحُكْمِ تَقَضِّيهِ ذَلِكَ، كَمَا عَبَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ} [يوسف: ٥٠] إِلَى آخِرِهِ وَرُبَّمَا وَجَّبَتُهُ عَلَيْهِ فِي مَرَامِ ذَلِكَ الْمَقَامِ مِمَّنْ قَصْدُهُ الْبَرَاءَةُ مِمَّا اشْتُهِرَ فِي حَقِّهِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ، لِيُقَابِلَ صَاحِبَ الْأَمْرِ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ، أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَلِّمُ بَعْضَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَرِيقٍ، فَمَرَّ عَلَيْهِ صَحَابِيٌّ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " إِنَّ هَذِهِ فُلَانَةُ مِنَ الْأَزْوَاجِ الطَّاهِرَاتِ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُظَنُّ فِيكَ ظَنُّ السُّوءِ؟ فَقَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» ".

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى إِحْمَادِهِ صَبْرَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَرْكَهُ الِاسْتِعْجَالَ بِالْخُرُوجِ عَنِ السِّجْنِ مَعَ امْتِدَادِ مُدَّةِ الْحَبْسِ عَلَيْهِ، قَالَ: إِنَّ فِي ضِمْنِ هَذَا الْحَدِيثِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،

<<  <  ج: ص:  >  >>