مَاؤُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ التِّبْيَانِيَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ السَّحَابَ كِنَايَةٌ عَنْ حِجَابِ الْجَلَالِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حِجَابِ الذَّاتِ الْبَاعِثِ عَلَى سِرِّ الصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَلَوِيَّاتِ وَالسَّلَفِيَّاتِ، وَلِذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا يَدْرِي أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَاءُ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَمَى بِالْقِصَرِ، وَهُوَ ذَهَابُ الْبَصَرِ، فَقِيلَ: هُوَ كُلُّ أَمْرٍ لَا تُدَارِكُهُ عُقُولُ بَنِي آدَمَ، وَلَا يَبْلُغُ كُنْهَهُ الْوَصْفُ، وَلَا يُدْرِكُهُ الْفَطِنُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: نَحْنُ نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَيِّفُهُ بِصِفَةٍ أَيْ نُجْرِي اللَّفْظَ عَلَى مَا جَاءَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ مَعَ التَّنْزِيهِ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُدُوثِ وَالتَّبْدِيلِ.
(مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ) : مَا: نَافِيَةٌ فِيهِمَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِالْعَمَاءِ مَا لَا تَقْبَلُهُ الْأَوْهَامُ وَلَا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ وَالْأَفْهَامُ، عَبَّرَ عَنْ عَدَمِ الْمَكَانِ بِمَا لَا يُدْرَكُ وَلَا يُتَوَهَّمُ، وَعَنْ عَدَمِ مَا يَحْوِيهِ وَيُحِيطُ بِهِ الْهَوَاءُ، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْخَلَاءُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْجِسْمِ، لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَمَّا خُلِقَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ فَلَوْ كَانَ الْعَمَاءُ أَمْرًا مَوْجُودًا لَكَانَ مَخْلُوقًا، إِذْ مَا مِنْ شَيْءٍ سِوَاهُ إِلَّا وَهُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ وَأَبْدَعَهُ، فَلَمْ يَكُنِ الْجَوَابُ طِبْقَ السُّؤَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ.
وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفُ مُضَافٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: ٢١٠] وَنَحْوِهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَيْنَ كَانَ عَرْشُ رَبِّنَا؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: ٧] : الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ السُّؤَالُ عَنِ الْعَرْشِ لَمَا كَانَ حَاجَةٌ لِلتَّعَرُّضِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى التَّقْدِيرِ، وَلَا بُدَّ لِقَوْلِهِ فِي عَمَاءٍ بِالْمَدِّ مِنَ التَّأْوِيلِ، حَتَّى يُوَافِقَ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَمًّى مَقْصُورًا، وَمَا وَرَدَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: " «مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ» " جَاءَ تَتْمِيمًا صَوْنًا لِمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي عَمَاءٍ مِنَ الْمَكَانِ، فَإِنَّ الْغَمَامَ الْمُتَعَارَفَ مُحَالٌ أَنْ يُوجَدَ بِغَيْرِ هَوَاءٍ، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: " «كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ» " عَلَى مَا سَبَقَ فَالْجَوَابُ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ سُئِلَ عَنِ الْمَكَانِ؟ فَأَجَابَ عَنِ الْإِمْكَانِ، يَعْنِي إِنْ كَانَ هَذَا مَكَانًا فَهُوَ فِي مَكَانٍ، وَهُوَ إِرْشَادٌ لَهُ يَفِي غَايَةً مِنَ اللُّطْفِ.
(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) : وَهُوَ أَحَدُ مَشَايِخِ شُيُوخِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (الْعَمَاءُ) أَيْ: يَعْنِي مَعْنَاهُ (لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ) : وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى كَلَامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ فِي هَذَا الشَّأْنِ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ وَالْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ كَانَ، وَإِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute