للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

(فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا أَيْ: جَمِيعَهَا ( «وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا» : قَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ " مِنْ " فِي " مِنْهَا " لِلتَّبْعِيضِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا تَوَهَّمَهُ، بَلْ هِيَ لِلتَّفْصِيلِ لِلْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالتَّفْصِيلُ لَا يُنَاقِضُ الْجُمْلَةَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَرْضَ زُوِيَتْ لِي جُمْلَتُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، ثُمَّ هِيَ تُفْتَحُ لِأُمَّتِي جُزْءًا فَجُزْءًا حَتَّى يَصِلَ مُلْكُ أُمَّتِي إِلَى كُلِّ أَجْزَائِهَا. أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ مَنْ قَالَ بِالتَّبْعِيضِ هُوَ أَنَّ مُلْكَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا بَلَغَ جَمِيعَ الْأَرْضِ، فَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضُ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ ضَمِيرَ مِنْهَا رَاجِعٌ إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْدَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. ( «وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ: الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ» ) : بَدَلَانِ مِمَّا قَبْلَهُمَا أَيْ: كَنَزَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ بِالْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ خَزَائِنَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى نُقُودِ مَمَالِكِ كِسْرَى الدَّنَانِيرُ، وَالْغَالِبَ عَلَى نُقُودِ مَمَالِكِ قَيْصَرَ الدَّرَاهِمُ ( «وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ» ) أَيْ: بِقَحْطٍ شَائِعٍ لِجَمِيعِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: السَّنَةُ الْقَحْطُ وَالْجَدْبُ، وَهِيَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ، (وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا) : وَهُمُ الْكُفَّارُ وَقَوْلُهُ: (مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ) : صِفَةُ عَدُوًّا أَيْ: كَائِنًا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِهَذَا الْقَيْدِ لَمَّا سَأَلَ أَوَّلًا ذَلِكَ فَمُنِعَ عَلَى مَا يَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي (فَيَسْتَبِيحَ) أَيِ: الْعَدُوُّ، وَهُوَ مِمَّا يَسْتَوِي فِيهِ الْجَمْعُ وَالْمُفْرَدُ (بَيْضَتَهُمْ) : أَرَادَ بِالْبَيْضَةِ أَيْ: مُجْتَمَعَهُمْ مَوْضِعَ سُلْطَانِهِمْ، وَمُسْتَقَرَّ دَعْوَتِهِمْ، وَبَيْضَةُ الدَّارِ أَوْسَطُهَا وَمُعْظَمُهَا، أَرَادَ عَدُوًّا يَسْتَأْصِلُهُمْ وَيُهْلِكُهُمْ جَمِيعَهُمْ، وَقِيلَ: أَرَادَ إِذَا هَلَكَ أَصْلُ الْبَيْضَةِ كَانَ هَلَاكُ كُلِّهَا فِيهِ مِنْ طُعْمٍ أَوْ فَرْخٍ، وَإِذَا لَمْ يَهْلِكَ أَصْلُ الْبَيْضَةِ رُبَّمَا سَلِمَ بَعْضُ فِرَاخِهَا، وَالنَّفْيُ مُنْصَبٌّ عَلَى السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مَعًا، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا، لَكِنْ لَا يَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهُمْ، (وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً) أَيْ: حَكَمْتُ حُكْمًا مُبْرَمًا (فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ) أَيْ: بِشَيْءٍ بِخِلَافِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطِ وُجُودِ شَيْءٍ أَوْ عَدَمِهِ، كَمَا حُقِّقَ فِي بَابُ الدُّعَاءِ وَرَدِّ الْبَلَاءِ، (وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ) أَيْ: عَهْدِي وَمِيثَاقِي (لِأُمَّتِكَ) أَيْ: لِأَجْلِ أُمَّةِ إِجَابَتِكَ (أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ) أَيْ: بِحَيْثُ يَعُمُّهُمُ الْقَحْطُ وَيُهْلِكُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ فِي أُمَّتِكَ هِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ سَابِقًا: سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي، أَيْ: أَعْطَيْتُ سُؤَالَكَ لِدُعَائِكَ لِأُمَّتِكَ، وَالْكَافُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ: أَنْ لَا أُهْلِكَهُمُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ: سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، (وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ) أَيِ: الَّذِينَ هُمْ (بِأَقْطَارِهَا) أَيْ: بِأَطْرَافِهَا جَمْعُ قُطْرٍ، وَهُوَ الْجَانِبُ وَالنَّاحِيَةُ، وَالْمَعْنَى فَلَا يَسْتَبِيحُ عَدُوٌّ مِنَ الْكُفَّارِ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَى مُحَارَبَتِهِمْ مِنْ أَطْرَافِ بَيْضَتِهِمْ، وَجَوَابُ لَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ (حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي) : كَيَرْمِي بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى يُهْلِكُ أَيْ: وَيَأْسِرُ (بَعْضُهُمْ) : بِوَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ (بَعْضًا) أَيْ: بَعْضًا آخَرَ. فِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى يَكُونُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى. بِمَعْنَى كَيْ أَيْ: لِكَيْ يَكُونَ بَعْضُ أُمَّتِكَ يُهْلِكُ بَعْضًا، فَقَوْلُهُ: " «إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَلَا يُرَدُّ» " تَوْطِئَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ ثَلَاثًا: فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا» . قَالَ الْمُظْهِرُ: اعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ قَضَاءَيْنِ مُبْرَمًا وَمُعَلَّقًا بِفِعْلٍ، كَمَا قَالَ: إِنْ فَعَلَ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَلَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا يَتُوقُ إِلَيْهِ الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: ٣٩] وَأَمَّا الْقَضَاءُ الْمُبْرَمُ؟ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا قَدَّرَهُ سُبْحَانَهُ فِي الْأَزَلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَلِّقَهُ بِفِعْلٍ؟ فَهُوَ فِي الْوُقُوعِ نَافِذٌ غَايَةَ النَّفَاذِ بِحَيْثُ لَا يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَقْضِي عَلَيْهِ وَلَا الْمُقْتَضِي لَهُ، لِأَنَّهُ مِنْ عِلْمِهِ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَخِلَافُ مَعْلُومِهِ مُسْتَحِيلٌ قَطْعًا، وَهَذَا مِنْ قِبَلِ مَا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ. قَالَ تَعَالَى: {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: ٤١] وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا مَرَدَّ لِقَضَائِهِ وَلَا مَرَدَّ لِحُكْمِهِ» . فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَلَا يُرَدُّ» " مِنَ الْقَبِيلِ الثَّانِي وَلِذَلِكَ لَمْ يُجِبْ إِلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مُسْتَجَابُو الدَّعْوَةِ إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>