للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بِقَوْلِهِ يُقِيمَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِقَامَةَ التَّوْحِيدِ فِي إِدَامَةِ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ التَّفْرِيدِ، وَقَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَنْ نَقْبِضَهُ) أَيْ: رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءِ أَيْ: نَجْعَلُهَا مُسْتَقِيمَةً، وَيُرِيدُ بِهَا مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَدَيَّنُ بِهَا، وَتَزْعُمُ أَنَّهَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّمَا وَصَفَهَا بِالْعَوْجَاءِ وَسَمَّاهَا مِلَّةً عَلَى الِاتِّسَاعِ كَمَا يُقَالُ: الْكُفْرُ مِلَّةٌ. (وَيُفْتَحُ) : بِالْيَاءِ وَالنُّونِ عَلَى مَا سَبَقَ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: يُقِيمَ وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ: وَهُوَ يَفْتَحُ أَوْ نَحْنُ (بِهَا) أَيْ: بِوَاسِطَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهِ أَيْ: بِهَذَا النَّبِيِّ أَوْ بِهَذَا الْقَوْلِ (أَعْيُنًا) : بِالنَّصْبِ عَلَى مَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ (عُمْيًا) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ جَمْعُ أَعْمَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ، وَالدَّارِمِيِّ، وَكِتِابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: يُفْتَحُ بِهَا أَعْيُنٌ عَمْيَاءَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ رِوَايَةً وَدِرَايَةً: أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ أَصَحِّيَّةِ الدِّرَايَةِ هُوَ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ بِلَا خِلَافٍ عَلَى اخْتِلَافِ أَنَّهُ بِالْيَاءِ أَوِ النُّونِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (وَآذَانًا) : إِلَخْ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ، وَهُوَ بِمَدِّ الْهَمْزِ جَمْعُ الْأُذُنِ (صُمًّا) : جَمْعُ أَصَمَّ (وَقُلُوبًا غُلْفًا) . بِضَمِّ أَوَّلِهِ جَمْعُ أَغْلَفَ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَفْهَمُ كَأَنَّ قَلْبَهُ فِي غِلَافٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ لِأَنَّهَا آلَاتٌ لِلْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ. قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: ٧] وَقَالَ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: ١٨] وَلَعَلَّهُ لَمْ يَذْكُرِ اللِّسَانَ فِي مَعْرِضِ هَذَا الْبَيَانِ، لِأَنَّهُ تُرْجُمَانُ الْجَنَانِ، وَإِنَاءٌ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَعْيَانِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا مُثْبَتَةٌ فِي الْقُرْآنِ. قُلْتُ: أَجَلْ أَمَّا قَوْلُهُ: " {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب: ٤٥] " فَفِي الْأَحْزَابِ، وَقَوْلُهُ: حِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، فَفِي الْجُمُعَةِ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} [الجمعة: ٢] وَقَوْلُهُ: سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران: ١٥٩] " إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: ١٥٩] وَقَوْلُهُ: وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: ٩٨] أَيْ: دُمْ عَلَى التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ مِنَ الَّذِينَ لَهُمْ مُسَاهَمَةٌ وَنَصِيبٌ وَافِرٌ فِي السُّجُودِ، فَلَا تُخِلَّ بِهَا وَلَا تُشْغَلَ بِغَيْرِهَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ مِنَ السَّاجِدِينَ» فَقَوْلُهُ: وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: ١٨] إِذْ هُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْيُ سَخَّابٍ وَحْدَهُ وَنَفْيُهُمَا مَعًا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِي الْأَسْوَاقِ قَيْدًا مُعْتَبَرًا فِي النَّفْيِ احْتِرَازًا مِنْ رَفْعِ صَوْتِهِ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْخُطْبَةِ فِي الْمَسَاجِدِ قَالَ: وَقَوْلُهُ: وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: ٣٤] وَقَوْلُهُ: حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: ١٠٨] أَيْ: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ التَّوْحِيدَ وَأَنْفِيَ الشِّرْكَ.

فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} [النمل: ٨١] ؟ قُلْتُ: دَلَّ إِيلَاءُ الْفَاعِلِ الْمَعْنَوِيِّ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْفَاعِلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى نَزَّلَهُ بِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِ الْقَوْمِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَدَّعِي اسْتِقْلَالَهُ بِالْهِدَايَةِ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ لَسْتَ بِمُسْتَقِلٍّ فِيهِ، بَلْ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَيْسِيرِهِ اه.

وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ قَدْ يَنْسُبُ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرًا إِلَى كَوْنِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ، وَمِنْهُ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} [الشورى: ٥٢] وَتُنْفَى عَنْهُ أُخْرَى نَظَرًا إِلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْهِدَايَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: ٥٦] .

<<  <  ج: ص:  >  >>