وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ السَّائِلَ مِنْ أَعْضَائِهِ - لِشَرَفِهَا - لَا يَنْجُسُ، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَارَ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا طَهَارَةَ فَضَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ) : أَيْ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَقِيلَ: الْخَاتَمُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ بِمَعْنَى الطَّابِعُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَاتَمِ هُنَا هُوَ الْأَثَرُ الْحَاصِلُ بِهِ لَا الطَّابِعُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى النُّبُوَّةِ إِمَّا لِأَنَّهُ خُتِمَ عَلَى النُّبُوَّةِ لِحِفْظِهَا وَحِفْظِ مَا فِيهَا؛ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَامِهَا، أَوِ اسْتِيثَاقِهَا، وَإِمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلَامَةٌ لِنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (بَيْنَ كَتِفَيْهِ) : حَالٌ مِنَ الْخَاتَمِ أَوْ صِفَةٌ لَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِلَى الْخَاتَمِ الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَقِيلَ بِكَسْرِ الْأَوَّلِ وَسُكُونِ الثَّانِي. قَالَ بَعْضُهُمْ: خَاتَمُ النُّبُوَّةِ أَثَرٌ كَانَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ نُعِتَ بِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكَانَ عَلَامَةً يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، وَصِيَانَةً لِنُبُوَّتِهِ عَنْ تَطَرُّقِ التَّكْذِيبِ وَالْقَدْحِ، كَالشَّيْءِ الْمُسْتَوْثَقِ عَلَيْهِ بِالْخَتْمِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى خَتْمِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ بِهِ فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَعِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَنْزِلُ بِنُبُوَّةٍ مُتَجَدِّدَةٍ، بَلْ يَنْزِلُ عَامِلًا بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقْتَدِي بِبَعْضِ أُمَّتِهِ، وَقَتْلُهُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَعَدَمُ قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ شَرِيعَتِنَا ; لِأَنَّ أَخْذَهَا مُغَيًّا بِنُزُولِهِ لِزَوَالِ شُبْهَتِهِمْ حِينَئِذٍ الْمُجَوِّزَةُ لِقَبُولِهَا مِنْهُمْ. قِيلَ: لَا تَتِمُّ تِلْكَ التَّسْمِيَةُ إِلَّا لَوْ كَانَ الْخَاتَمُ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا إِذَا وَرَدَ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ خَاتَمًا فَلَا يَتِمُّ اهـ.
وَيُرَدُّ بِأَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ: هَذَا الْخَاتَمُ الْمَخْصُوصُ فِي مَحَلِّهِ الْمَخْصُوصِ الدَّالِّ عَلَى تَمَيُّزِهِ عَنْهُمْ، فَإِنَّ خَوَاتِيمَهُمْ كَانَتْ فِي أَيْمَانِهِمْ كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ، عَنْ وَهْبٍ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ بُعْدِهَا مِنَ الْقَلْبِ وَقُرْبِ خَاتَمِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَ كَتِفَيْهِ أَيْ: تَقْرِيبًا ; حَتَّى لَا يُنَافِيَ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرَ، بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَتُفْتَحُ فَمُعْجَمَتَيْنِ، وَهُوَ أَعْلَى الْكَتِفِ، أَوِ الْعَظْمُ الرَّقِيقُ الَّذِي عَلَى طَرَفِهِ، أَوْ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ عِنْدَ التَّحَرُّكِ أَقْوَالٌ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَوْنُهُ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى رَدِّ رِوَايَةِ: أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ وَحِكْمَةُ الْأُولَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ فَوْقَ الْقَلْبِ، فَبِخَتْمِهِ لَا يُمْكِنُ تَطَرُّقُ شَيْءٍ إِلَى الْقَلْبِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (مِثْلَ) : نُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: كَمِثْلِ وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مَحْذُوفٌ هُوَ هُوَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الشَّمَائِلِ: فَإِذَا هُوَ مِثْلُ (زِرِّ الْحَجَلَةِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الزِّرُّ بِتَقَدُّمِ الزَّايِ الْمَكْسُورَةِ عَلَى الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَاحِدُ الْأَزْرَارِ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى مَا يَكُونُ فِي حَجَلَةِ الْعَرُوسِ بِالْحَاءِ وَالْجِيمِ، وَهِيَ بِفَتْحَتَيْنِ بَيْتٌ كَالْقُبَّةِ يُسْتَرُ بِالثِّيَابِ، وَيَكُونُ لَهُ أَزْرَارٌ كِبَارٌ. قُلْتُ: وَتُسَمِّيهِ أَهْلُ مَكَّةَ الْآنَ النَّامُوسِيَّةَ. قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: بِتَقَدُّمِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الزَّايِ بِمَعْنَى الْبَيْضِ، وَالْحَجَلَةُ: هِيَ الْقَبَجَةُ، وَهِيَ طَائِرٌ مَعْرُوفٌ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ مِيرَكُ: وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ بِتَقَدُّمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ. وَقَالَ مُلَّا حَنَفِي: إِنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحِيحَ الرَّاءُ قَبْلَ الزَّايِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قِيلَ الْمُرَادُ وَاحِدُ الْأَزْرَارِ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا فِي حِجَالِ الْعَرَائِسِ مِنَ الْحُلَلِ وَالسُّتُورِ. وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ طَرِيقِ الْبَلَاغَةِ، قَاصِرٌ فِي التَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُلَائِمُ الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِي خَاتَمِ النُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بَيْضَةَ الْحَجَلَةِ، وَهِيَ الْقَبَجَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرَ أَنَّ الزِّرَّ بِمَعْنَى الْبَيْضِ لَمْ يُوجَدْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا هُوَ رِزٌّ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ مِنْ: رَزَزَتِ الْجَرَادَةُ إِذَا أَدْخَلَتْ ذَنْبَهَا فِي الْأَرْضِ وَأَلْقَتْ بَيْضَهَا، وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَا فِي الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَةَ لَمْ تُسَاعِدْهُ، وَالَّذِي يَنْصُرُ الْقَوْلَ الثَّانِيَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: كَانَ خَاتَمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ غُدَّةً حَمْرَاءَ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ. قِيلَ: يَكْفِي الْمُشَابَهَةُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا نَاتِئًا مِنَ الْجَسَدِ لَهُ نَوْعُ مُشَابَهَةٍ بِزِرِّ الْحَجَلَةِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَاتٍ مَا قَدْ يُخَالِفُ مَا مَرَّ مِنْ كَوْنِهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ، كَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ: جُمْعًا عَلَيْهِ خِيلَانٌ كَأَنَّهَا الثَّآلِيلُ السُّودِ، وَرِوَايَتُهُ أَيْضًا كَبَيْضَةِ الْحَمَامَةِ، وَرِوَايَةُ صَحِيحِ الْحَاكِمِ: شَعْرٌ مُجْتَمِعٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ: مِثْلَ السِّلْعَةِ، وَالشَّمَائِلُ: بَضْعَةٌ نَاشِزَةٌ أَيْ: مُرْتَفِعَةٌ، وَابْنُ عَسَاكِرَ: مِثْلَ الْبُنْدُقَةِ، وَصَحِيحُ التِّرْمِذِيِّ: كَالتُّفَّاحَةِ كَأَثَرِ الْمِحْجَمِ الْقَابِضَةِ عَلَى اللَّحْمِ، وَابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: شَامَةٌ خَضْرَاءُ مُحْتَفِرَةٌ فِي اللَّحْمِ، وَلَهُ أَيْضًا شَامَةٌ سَوْدَاءُ تَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ حَوْلَهَا شَعَرَاتٌ مُتَرَاكِبَاتٌ كَأَنَّهَا عُرْفُ الْفَرَسِ، وَالْقُضَاعِيُّ: ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ مُجْتَمِعَاتٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمِ: كَبَيْضَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute