وَالْقَصْرِ (فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ) أَيْ: فَيَتَعَبَّدُ فِي ذَلِكَ الْغَارِ فِرَارًا مِنَ الْأَغْيَارِ. وَفِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ: فَيَتَحَنَّفُ بِالْفَاءِ أَيْ: يَتَّبِعُ الْحَنِيفِيَّةَ، وَهِيَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْفَاءُ تُبْدَلُ تَاءً فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. (وَهُوَ) أَيِ: التَّحَنُّثُ (التَّعَبُّدُ) : وَكَانَ الْمُتَعَبِّدُ يَتَحَرَّزُ عَنِ الْحِنْثِ بِمَعْنَى الْإِثْمِ، وَيَجْتَنِبُ عَنْهُ بِعِبَادَتِهِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ إِمَّا مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَوْ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ، وَالتَّحَنُّثُ فِي اللُّغَةِ: إِلْقَاءُ الْحِنْثِ عَنْ نَفْسِهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَرِدْ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ فِي مَعْنَى إِلْقَاءِ الشَّيْءِ عَنِ النَّفْسِ إِلَّا التَّحَنُّثُ وَالتَّأَثُّمُ وَالتَّجَوُّبُ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ، قَوْلُهُ: وَهُوَ التَّعَبُّدُ مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ قَطْعًا. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهُوَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ، أَوْ مَنْ دُونَهُ. قَالَ: وَجَزَمَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَهُ اهـ.
وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَسَّرَتِ التَّحَنُّثَ بِقَوْلِهَا: وَهُوَ التَّعَبُّدُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ مِنْ دَأْبِهِ قَالَ النَّوَوِيُّ، وَقَوْلُهُ: (اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ) . مُتَعَلِّقٌ بِيَتَحَنَّثُ لَا بِالتَّعَبُّدِ، وَمَعْنَاهُ يَتَحَنَّثُ اللَّيَالِيَ وَلَوْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِالتَّعَبُّدِ فَسَدَ الْمَعْنَى، فَإِنَّ التَّحَنُّثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّيَالِي، بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ اعْتُرِضَ بَيْنَ كَلَامِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَإِنَّمَا كَلَامُهَا فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ اللَّيَالِي وَأُرِيدَ بِهَا اللَّيَالِي مَعَ أَيَّامِهِنَّ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، لِأَنَّهَا أَنْسَبُ لِلْخَلْوَةِ، وَقُيِّدَ بِذَوَاتِ الْعَدَدِ لِإِرَادَةِ التَّقْلِيلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: ٢٠] اهـ.
فَالْمُرَادُ بِذَاتِ الْعَدَدِ الْقِلَّةُ، وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ الْكَثْرَةَ إِذِ الْكَثِيرُ يَحْتَاجُ لِلْعَدَدِ لَا الْقَلِيلُ، وَقِيلَ: إِبْهَامُ الْعَدَدِ لِاخْتِلَافِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَتَخَلَّلُهَا مَجِيئُهُ إِلَى أَهْلِهِ، وَإِلَّا فَأَصْلُ الْخَلْوَةِ قَدْ عُرِفَتْ مُدَّتُهَا وَهِيَ شَهْرٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَذَلِكَ الشَّهْرُ كَانَ رَمَضَانَ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّةُ أَرْبَعِينَ قِيَاسًا عَلَى مِيقَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْأَسْرَارِ الَّتِي تَظْهَرُ آثَارُهَا وَأَنْوَارُهَا عَلَى الصُّوفِيَّةِ الْأَبْرَارِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ مُطَابَقَةِ الْأَرْبِعِينَاتِ فِي الْأَطْوَارِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» ) . هَذَا وَقَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَلَمْ يَأْتِ التَّصْرِيحُ بِصِفَةِ تَعَبُّدِهِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَيُطْعِمُ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ يَتَعَبَّدُ بِالتَّفْكِيرِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ مُسْلِمٍ، وَفِي التَّحْرِيرِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْهُمَامِ أَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ مَبْعَثِهِ مُتَعَبِّدٌ، فَقِيلَ بِشَرْعِ نُوحٍ، وَقِيلَ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ مُوسَى، وَقِيلَ عِيسَى، وَنَفَاهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْآمِدِيُّ، وَتَوَقَّفَ الْغَزَالِيُّ أَيْ: فِي تَعَبُّدِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ. وَفِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: لَا يَظْهَرُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَمَرَةٌ فِي الْأُصُولِ، وَلَا فِي الْفُرُوعِ، بَلْ يَجْرِي مَجْرَى التَّوَارِيخِ الْمَنْقُولَةِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعَبُّدِ هُنَا التَّجَرُّدُ لِلْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الْخَلْقِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالتَّبَتُّلُ إِلَى الْحَقِّ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ صِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْخُلُوُّ عَنِ الْمَطَالِبِ النَّفْسِيَّةِ، وَالْمَآرِبِ الشَّهْوِيَّةِ، وَخُلَاصَتُهُ الْغَيْبَةُ عَمَّا سِوَاهُ، وَالْحُضُورُ مَعَ اللَّهِ الْمُتَرْجَمِ عَنْهُ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْوَارِدُ فِيهِ: أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ بِالْفَنَاءِ وَالْبَقَاءِ، وَالِانْفِصَالِ، وَالْبَيْنُونَةِ وَالْكَيْنُونَةِ، وَهُوَ نِهَايَةُ مَرَاتِبِ الْعِبَادِ وَغَالِبُ مَطَالِبِ الْعِبَادِ. (قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ) ، يُقَالُ: نَزَعَ إِلَى أَهْلِهِ يَنْزِعُ أَيِ اشْتَاقَ وَمَالَ، وَلِذَا قِيلَ: يَنْزِعُ يَرْجِعُ زِنَةً وَمَعْنًى. قَالَ شَارِحٌ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَمِيلُ عَنْ أَهْلِهِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى خَلْوَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَيَتَزَوَّدُ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: فَيَجِيءُ أَهْلَهُ وَيَأْخُذُ زَادَهُ (لِذَلِكَ) ، أَيْ: لِتَعَبُّدِهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، أَوْ لِمَا ذُكِرَ مِنَ اللَّيَالِي مُشْتَغِلًا بِرَبِّ الْعِبَادِ وَمُتَهَيِّئًا لِأَمْرِ الْمَعَادِ إِلَى فَرَاغِ الزَّادِ. (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا) ، أَيْ: لِمِثْلِ تِلْكَ اللَّيَالِي، أَوْ لِنَحْوِ تِلْكَ الْعَوْدَةِ الَّتِي فِيهَا الْجَوْدَةُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَخْذَ الزَّادِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ وَالِاعْتِمَادَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَمَرَّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مِنَ الذَّهَابِ لِلْآمَالِ وَالرُّجُوعِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute