لِنَيْلِ الْمَنَالِ وَحُسْنِ الْمَآلِ. (حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ) أَيْ: أَمْرُ الْحَقِّ وَهُوَ الْوَحْيُ، أَوْ رَسُولُ الْحَقِّ وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، أَوْ مَعْنَى تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ وَظَهَرَ لَهُ الْجَمَالُ الْمُطْلَقُ بِلَا مُرَاعَاةٍ وَلَا مِرَاءٍ. (وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ) : اللَّامُ لِلْعَهْدِ وَهُوَ جِبْرِيلُ، وَقِيلَ إِسْرَافِيلُ (قَالَ: اقْرَأْ) . أَيْ: مُطْلَقًا وَهُوَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْبَاهِرِ أَوْ كَمَا أَقْرَأُ وَهُوَ الظَّاهِرُ (قَالَ: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) أَيْ: لَا أُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، وَلَمْ أَتَعَلَّمِ الْقِرَاءَةَ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِيمَنْ يَقْرَأُ. (قَالَ: (فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: عَصَرَنِي قَبْلَ الْغَطِّ. فِي الْأَصْلِ الْمَقْلُ فِي الْمَاءِ، وَالتَّغْوِيصُ فِيهِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْغَطُّ مِمَّا يَأْخُذُ بِنَفْسِ الْمَغْطُوطِ اسْتُعْمِلَ مَكَانَ الْخَنْقِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَخَنَقَنِي. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْغَطَّ هُوَ الْعَصْرُ إِمَّا مِنْ جِهَةِ الْبَطْنِ أَوِ الظَّهْرِ، لَكِنَّ شِدَّتَهُ رُبَّمَا تُضَيِّقُ النَّفَسَ، فَيُشَابِهُ حَالَةَ الْخَنْقِ، فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْخَنْقِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى وَأَخْلَقُ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ فِي الْغَطِّ شَغْلُهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ لِمَا يَقُولُهُ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ ثَلَاثًا مُبَالَغَةً فِي التَّنْبِيهِ، فَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي تَنْبِيهِ الْمُتَعَلِّمِ، وَيَأْمُرَهُ لِإِحْضَارِ قَلْبِهِ، وَقِيلَ إِنَّمَا غَطَّ لِيَخْتَبِرَهُ، هَلْ يَقُولُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ شَيْئًا، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَصَرَنِي عَصْرًا شَدِيدًا. (حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ) ، بِضَمِّ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْجُهْدُ يَجُوزُ فِيهِ فَتْحُ الْجِيمِ وَضَمُّهَا، وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَشَقَّةُ، وَيَجُوزُ نَصْبُ الدَّالِ وَرَفْعُهَا، فَعَلَى النَّصْبِ بَلَغَ جِبْرِيلُ فِيَّ الْجَهْدَ، وَعَلَى الرَّفْعِ بَلَغَ الْجَهْدُ مِنِّي مَبْلَغَهُ وَغَايَتَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ - أَعْنِي نَصْبَ الدَّالِ وَفَتْحَهَا - صَاحِبُ التَّحْرِيرِ اهـ.
وَقَالَ شَارِحٌ: هُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَرَفْعِ الدَّالِ وَهُوَ بِالضَّمِّ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ، وَقِيلَ الْمُبَالَغَةُ وَالْغَايَةُ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ فِي الْوُسْعِ، وَأَمَّا الْمَشَقَّةُ وَالْغَايَةُ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَا أَرَى الَّذِي يَرْوِيهِ بِنَصْبِ الدَّالِ إِلَّا قَدْ وَهِمَ فِيهِ، أَوْ جَوَّزَهُ مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ فَإِنَّهُ إِذَا نَصَبَ الدَّالَ عَادَ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّهُ غَطَّهُ حَتَّى اسْتَفْرَغَ قُوَّتَهُ فِي ضَغْطِهِ وَجَهِدَ جَهْدَهُ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَزِيدٌ، وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ سَدِيدٍ، فَإِنَّ الْبِنْيَةَ الْبَشَرِيَّةَ لَا تَسْتَدْعِي اسْتِيفَاءَ الْقُوَّةِ الْمَلَكِيَّةِ، لَا سِيَّمَا فِي مَبْدَأِ الْأَمْرِ، وَقَدْ دَلَّتِ الْقَضِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ اشْمَأَزَّ مِنْ ذَلِكَ وَتَدَاخَلَهُ الرُّعْبُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا شَكَّ أَنَّ جِبْرِيلَ فِي حَالَةِ الْغَطِّ لَمْ يَكُنْ عَلَى صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي تَحَلَّى بِهَا عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَعِنْدَمَا رَآهُ مُسْتَوِيًا عَلَى الْكُرْسِيِّ، فَيَكُونُ اسْتِفْرَاغُ جُهْدِهِ بِحَسَبِ الصُّورَةِ الَّتِي تَجَلَّى لَهُ وَغَطَّهُ، وَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ اضْمَحَلَّ الِاسْتِبْعَادُ. أَقُولُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ تَشَكُّلِ الْمَلَكِ بِصُورَةِ الْآدَمِيِّ وَتَبَدُّلِهِ عَنْ أَصْلِ هَيْئَةِ الْمَلَكِ - سَلْبُ الْقُوَّةِ عَنْهُ، وَنَفْيُ الْغَلَبَةِ مِنْهُ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمَعْنَوِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْهَيْكَلِ الصُّورِيِّ، فَكَلَامُ الشَّيْخِ فِي مَحَلِّهِ وَصِحَّةُ الرِّوَايَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى نَقْلِهَا لَا بِمُجَرَّدِ جَوَازِهَا وَذِكْرِهَا وَحَمْلِهَا.
(ثُمَّ) أَيْ: بَعْدَمَا بَلَغَ بِقُرْبِهِ مِنِّي الْجَهْدَ (أَرْسَلَنِي) أَيْ: تَرْكَنِي فِي مَقَامِ الْبُعْدِ، وَكَأَنَّهُ نُقِلَ مِنْ مَقَامِ الْجَمْعِ إِلَى حَالِ التَّفْرِقَةِ، وَمِنْ مَرْتَبَةِ الْوِلَايَةِ إِلَى مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ تَرَقِّيًا إِلَى دَرَجَةِ جَمْعِ الْجَمْعِ (فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ) الظَّاهِرُ مِنْ صَنِيعِ الشُّرَّاحِ أَنَّ قَوْلَهُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ (مَا) فِي الْأُولَى نَافِيَةٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ أَوْ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ مِصْرَ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَنَا أَقْرَؤُهُ. (فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ) . أَيِ: الَّذِي أَنَا بِقَارِئٍ مَا هُوَ؟ عَلَى أَنَّ مَا: مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ فِي الْمَعْنَى الْمَرَامِ أَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ الْإِعْلَامِ. (فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١] : قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقِيلَ أَوَّلُهُ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: ١] وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ اقْرَأْ أَوَّلُهُ الْحَقِيقِيُّ وَيَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أَوَّلُهُ الْإِضَافِيُّ، وَهُوَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ إِلَّا الْإِلَهِيَّ قَالَ: وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، لِكَوْنِهَا لَمْ تُذْكَرْ هُنَا، وَجَوَابُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ أَوَّلًا، بَلْ نَزَلَتِ الْبَسْمَلَةُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، كَمَا نَزَلَتْ بَاقِي السُّوَرِ فِي وَقْتٍ آخَرَ. فَلَا تَكُونُ الْبَسْمَلَةُ جُزْءًا لِجَمِيعِ أَوَائِلِ السُّوَرِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ، فَثَبَتَ مُدَّعِي أَهْلِ الْفَضْلِ، وَلَعَلَّ النَّوَوِيَّ لَمَّا أُشْعِرَ ضَعْفَ الْجَوَابِ أَسْنَدَهُ إِلَيْهِمْ تَبَرِّيًا مِنْ قَوْلِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute