للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَالَ الطِّيبِيُّ: اقْرَأْ أَمْرٌ بِإِيجَادِ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِمَقْرُوءٍ دُونَ مَقْرُوءٍ، فَقَوْلُهُ: {بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١] حَالٌ أَيِ: اقْرَأْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبِّكَ أَيْ قُلْ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثُمَّ اقْرَأْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مَأْمُورٌ قِرَاءَتُهَا فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ قِرَاءَةٍ، فَيَكُونُ مَأْمُورًا قِرَاءَتُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا. قُلْتُ: لَا يَخْفَى بُعْدَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى أُولِي النُّهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: أَمْرٌ بِإِيجَادِ الْقِرَاءَةِ فَفِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ الْإِيجَادَ وَالْإِمْدَادَ مِنْ أَفْعَالِ رَبِّ الْعِبَادِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الِاعْتِقَادِ، فَالْأَمْرُ إِنَّمَا تَوَجَّهَ بِمُبَاشَرَةِ الْقِرَاءَةِ لَا بِإِيجَادِهَا، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِمَقْرُوءٍ دُونَ مَقْرُوءٍ، فَفِيهِ أَنَّ لَفْظَ اقْرَأْ هُنَا أَيْضًا مَقْرُوءٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلِاسْتِعَانَةِ أَوْ لِلْإِلْصَاقِ أَوِ الْمُلَابَسَةِ، كَمَا حُقِّقَ فِي الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَ الْفَاتِحَةِ أَيِ: اقْرَأْ مُسْتَعِينًا بِاسْمِ رَبِّكَ، أَوْ مُلْصِقًا بِهِ قِرَاءَتَكَ، أَوْ حَالَ كَوْنِكَ مُتَلَبِّسًا بِهِ وَعَلَى الْمَنْزِلِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الِافْتِتَاحِ بِاسْمِ الرَّبِّ أَنْ يُؤْتَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ يَقْرَأُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، بَلْ ظَاهِرُهُ خِلَافُ الْمَأْمُورِ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمَقْرُوءَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١] وَالْحَالُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مُدَّعَى الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يُثْبِتُوا الْبَسْمَلَةَ قَبْلَ قَوْلِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١] ثُمَّ قَوْلُهُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مَأْمُورٌ قِرَاءَتُهَا فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ قِرَاءَةٍ مَمْنُوعٌ وَمَدْفُوعٌ، لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّعَوُّذِ، أَوْ وُجُوبِهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَعَلَى جَوَازِ الْبَسْمَلَةِ كَذَلِكَ إِلَّا فِي أَوَّلِ بَرَاءَةٍ عَلَى الصَّوَابِ، وَفِي أَثْنَاءِ سُورَتِهَا خِلَافٌ وَالْمُعْتَمَدُ مَنْعُهَا. {الَّذِي خَلَقَ} [العلق: ١] . أَيِ: الْأَشْيَاءَ وَمِنْ جُمْلَتِهَا خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالْقُوَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: ٢] : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ خُلَاصَةُ الْمَخْلُوقَاتِ وَزُبْدَةُ الْمَوْجُودَاتِ، وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا اخْتَارَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّهُ إِبْهَامٌ وَتَبْيِينٌ، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ قَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ، لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى تَنَقُّلِهِ فِي أَطْوَارِ الْخِلْقَةِ إِلَى مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ بِالْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ الْمُطْلَقِ، وَإِلَى مَقَامِ الرِّسَالَةِ مِنْ دُعَاءِ الْخَلْقِ إِلَى دَعْوَةِ الْحَقِّ. (اقْرَأْ) : تَأْكِيدٌ لِلتَّقْرِيرِ وَتَكْرِيرٌ لِلتَّكْثِيرِ {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: ٣] أَيْ: مِنْ كُلِّ كَرِيمٍ، فَإِنَّ كَرَمَ كُلِّ كَرِيمٍ مِنْ أَثَرِ كَرَمِهِ، وَذَرَّةٌ مِنْ شُعَاعِ ظُهُورِ شَمْسِ نِعَمِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ وَصْفَهُ الْأَكْرَمَ اقْتَضَى بُلُوغَ وُصُولِ الْأُمِّيِّ إِلَى حُصُولِ مَقَامِ الْأَعْلَمِ، وَصَيَّرَهُ وَاسِطَةَ إِيصَالِ فَيْضِ الْعِلْمِ إِلَى أَفْرَادِ الْعَالَمِ. {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: ٤] أَيْ: بِوَاسِطَتِهِ كَثِيرًا مِنَ الْعُلُومِ الْمُتَعَارَفِ لِأَفْرَادِ بَنِي آدَمَ {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ} [العلق: ٥] أَيْ: بِطَرِيقِ بَيَانِ اللِّسَانِ وَتِبْيَانِ الْجِنَانِ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: ٥] ، أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الْحَادِثَةِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِنْسَانِ هُوَ الْكَامِلُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَاللَّامُ لِلْمَعْهُودِ فِي الْأَذْهَانِ، فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: ١١٣] وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا فَصَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.

(فَرَجَعَ بِهَا) أَيْ: رَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْآيَاتِ أَيْ: مَعَهَا مُتَوَجِّهًا إِلَى مَكَّةَ (يَرْجُفُ) : بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ: يَضْطَرِبُ (فُؤَادُهُ) ، وَيَتَحَرَّكُ شَدِيدًا مِنَ الرُّعْبِ الَّذِي دَخَلَ فِي قَلْبِهِ (فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: صَارَ بِسَبَبِ تِلْكَ الضَّغْطَةِ يَضْطَرِبُ فُؤَادُهُ، وَرَجَعَ يَجِيءُ بِمَعْنَى قَصَدَ أَيْضًا اهـ. وَمَا قَدَّمْنَاهُ هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا لَا يَخْفَى (فَقَالَ: (زَمِّلُونِي) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: غَطُّونِي بِالثِّيَابِ وَلُفُّونِي بِهَا (زَمِّلُونِي) : كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ زِيَادَةِ التَّأْبِيدِ. (فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ) ، بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيِ: الْخَوْفُ وَالرُّعْبُ الشَّدِيدُ (فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ) أَيْ: خَبَرَ مَا تَقَدَّمَ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ وَهُوَ: (لَقَدْ خَشِيتُ) أَيْ: خِفْتُ (عَلَى نَفْسِي) أَيْ: مِنَ الْجُنُونِ أَوِ الْهَلَاكِ. وَقَالَ شَارِحٌ: أَدْهَشَتْهُ هَيْبَتُهُ الْبَدِيهَةَ فَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تَخَبُّطِ الشَّيْطَانِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَشِيَ أَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ، فَتَزْهَقُ نَفْسُهُ، أَوْ يَكُونُ هَذَا لِأَوَّلِ التَّبَاشِيرِ فِي النَّوْمِ أَوِ الْيَقَظَةِ، وَسَمِعَ الصَّوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَلَكِ، وَتَحْقِيقِ رِسَالَةِ رَبِّهِ، فَيَكُونُ قَدْ خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَمَّا مُنْذُ جَاءَهُ الْمَلَكُ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ الشَّكُّ فِيهِ وَتَسْلِيطُ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: وَهَذَا الِاحْتِمَالُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ هَذَا بَعْدَ غَطِّ الْمَلَكِ وَإِتْيَانِهِ: بِـ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١] . وَقَالَ السُّيُوطِيُّ، قِيلَ: خَشِيَ الْجُنُونَ، وَأَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>