الْأَطْرَافِ، فَكَأَنَّهَا حَضَرَتِ الْقِصَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَارِثُ أَخْبَرَهَا بِذَلِكَ بَعْدُ، فَيَكُونُ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ وَحُكْمُهُ الْوَصْلُ اتِّفَاقًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ، وَعَامِرٌ فِيهِ ضَعْفٌ، لَكِنَّ لَهُ مُتَابِعٌ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (أَحْيَانًا) أَيْ: فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَالْأَزْمَانِ، قِيلَ: وَهُوَ وَقْتُ إِتْيَانِ الْوَعِيدِ (يَأْتِينِي) أَيِ: الْوَحْيُ (مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ) أَيْ: إِتْيَانًا مِثْلَ صَوْتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْ: يَأْتِينِي الْوَحْيُ مُشَابِهًا صَوْتُهُ لِصَوْتِ الْجَرَسِ، وَالصَّلْصَلَةُ: صَوْتُ الْحَدِيدِ إِذَا حُرِّكَ (وَهُوَ) أَيْ: هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْوَحْيِ (أَشَدُّهُ) : أَصْعَبُهُ (عَلَيَّ) : وَأَتْعَبُهُ إِلَيَّ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لِأَنَّ الْفَهْمَ مِنْ كَلَامِ الصَّلْصَلَةِ أَشْكَلُ مِنَ الْفَهْمِ مِنْ كَلَامِ الرَّجُلِ بِالتَّخَاطُبِ الْمَعْهُودِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَلَعَلَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: ٥] إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ صَوْتٌ مُتَدَارِكٌ يَسْمَعُهُ وَلَا يُثْبِتُهُ عِنْدَ أَوَّلِ مَا يَقْرَعُ سَمْعَهُ، حَتَّى يَتَفَهَّمَ وَيَتَثَبَّتَ فَيَتَلَقَّفُهُ حِينَئِذٍ وَيَعِيهِ، وَلِذَا قَالَ: (وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ) (فَيَفْصِمُ عَنِّي) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ أَيْ: يَنْقَطِعُ عَنِّي، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ مِنْ أَفْصَمَ الْحُمَّى وَالْمَطَرُ أَيْ: أَقْلَعَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي نُسْخَةٍ أُخْرَى بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُقْلِعُ عَنِّي كَرْبُ الْوَحْيِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ قَوْلُهُ: فَيَفْصِمُ أَيِ: الْوَحْيُ أَوِ الْمَلَكُ فَكَأَنَّهُ جَوَّزَ تَقْدِيرَ الْمُضَافِ فِي الْوَحْيِ السَّابِقِ أَيْ كَيْفَ يَأْتِيكَ صَاحِبُ الْوَحْيِ وَهُوَ الْمَلَكُ ثُمَّ قَالَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، كَذَا لِأَبِي الْوَقْتِ مِنْ فَصَمَ يَفْصِمُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ يَضْرِبُ، وَالْمُرَادُ قَطْعُ الشِّدَّةِ أَيْ: يُقْطَعُ وَيَنْجَلِي مَا يَغْشَانِي مِنَ الْكَرْبِ وَالشِّدَّةِ، وَيُرْوَى: فَيُفْصِمُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ مِنْ أَفْصَمَ الْمَطَرُ إِذَا أَقْلَعَ رُبَاعِيٌّ. قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَيُفْصَمُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ، وَالْفَصْمُ الْقَطْعُ مِنْ غَيْرِ بَيْنُونَةٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمَلَكَ يُفَارِقُنِي لِيَعُودَ حَالِي. (وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ) ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَهُوَ بِغَيْرِ الْعَيْنِ أَيْ: حَفِظْتُ الَّذِي ذَكَرَهُ، فَمَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، ثُمَّ الْوَعْيُ هُنَا قَبْلَ الْإِفْصَامِ، وَفِيمَا بَعْدُ حَالُ الْكَلَامِ، فَلِذَلِكَ وَرَدَ أَوَّلًا مَاضِيًا وَثَانِيًا حَالًا حَيْثُ قَالَ: (وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ) أَيْ: يَتَصَوَّرُ وَيَتَشَكَّلُ (لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا) أَيْ: مِثْلَ رَجُلٍ (فَيُكَلِّمُنِي، فَأَعِي مَا يَقُولُ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ يُغَالِطُ فِيهِ أَبْنَاءُ الصَّلَابَةِ وَيَتَّخِذُونَهُ ذَرِيعَةً إِلَى تَضْلِيلِ الْعَامَّةِ وَتَشْكِيكِهِمْ، وَهُوَ حَقٌّ أَبْلَجُ، وَنُورٌ يَتَوَقَّدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: ٣٥] لَا يَغْلَطُ فِيهِ إِلَّا مَنْ أَعْمَى اللَّهُ عَيْنَ قَلْبِهِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ تَقُولَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَيَّنًا بِالْبَلَاغِ، مُهَيْمِنًا عَلَى الْكِتَابِ، مُكَاشَفًا بِالْعُلُومِ الْغَيْبِيَّةِ، مَخْصُوصًا بِالْمُسَامَرَاتِ الْقَلْبِيَّةِ، وَكَانَ يَتَوَفَّرُ عَلَى الْأُمَّةِ حِصَّتُهُمْ بِقَدْرِ الِاسْتِعْدَادِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُنْبِئَهُمْ بِمَا لَا عَهْدَ لَهُمْ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ صَاغَ لَهَا أَمْثِلَةً مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَاتِ، لِيَعْرِفُوا مِمَّا شَاهَدُوهُ مَا لَمْ يُشَاهِدُوهُ، فَلَمَّا سَأَلَ الصَّحَابِيُّ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْوَحْيِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعَوِيصَةِ وَالْعُلُومِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي لَا يُكْشَفُ نِقَابُ التَّعَرِّي عَنْ وَجْهِهَا لِكُلِّ طَالِبٍ وَمُتَطَلِّبٍ، وَعَالِمٍ وَمُتَعَلِّمٍ، ضَرَبَ لَهَا فِي الشَّاهِدِ مَثَلًا بِالصَّوْتِ الْمُتَدَارِكِ الَّذِي يُسْمَعُ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ أَنْبَاءَهَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ فِي لُبْسَةِ الْجَلَالِ، وَأُبَّهَةِ الْكِبْرِيَاءِ، فَتَأْخُذُ هَيْبَةَ الْخِطَابِ حِينَ وُرُودِهَا بِمَجَامِعِ الْقَلْبِ، وَيُلَاقِي فِي ثِقَلِ الْقَوْلِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِالْقَوْلِ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ فَإِذَا سُرِّيَ عَنْهُ وَجَدَ الْقَوْلَ الْمُنَزَّلَ هُنَا مُلْقًى فِي الرَّوْعِ، وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمَسْمُوعِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ) وَمَعْنَى: يَفْصِمُ يُقْلِعُ عَنِّي كَرْبُ الْوَحْيِ شَبَّهَهُ بِالْحُمَّى إِذَا فَصَمَتْ عَنِ الْمَحْمُومِ، وَيُقَالُ: أَفْصَمُ الْمَطَرُ أَيْ: أَقْلَعَ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْوَحْيِ شَبِيهٌ بِمَا يُوحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ، عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا قَضَى اللَّهُ فِي السَّمَاءِ أَمْرًا ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهَا سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَـ {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: ٢٣] » .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute