هَذَا وَقَدْ سَبَقَ لَنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَأْتِيهِ عَلَى صِفَتَيْنِ. أَوَّلُهُمَا أَشَدُّ مِنَ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُرَدُّ فِيهَا مِنَ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى الْأَوْضَاعِ الْمَلَكِيَّةِ، فَيُوحَى إِلَيْهِ كَمَا يُوحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْأُخْرَى يُرَدُّ فِيهَا الْمَلَكُ إِلَى شَكْلِ الْبَشَرِ وَشَاكِلَتِهِ، فَكَانَتْ هَذِهِ أَيْسَرَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ صَوْتٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ مُتَضَمِّنٌ لِلْمَعَانِي، مُدْهِشٌ لِلنَّفْسِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا إِيَّاهُ، وَلَكِنَّ الْقَلْبَ لِلْمُنَاسَبَةِ يُشْرَبُ مَعْنَاهُ، فَإِذَا سَكَنَ الصَّوْتُ أَفَاقَ النَّفَسُ، فَحِينَئِذٍ يَتَلَقَّى النَّفَسُ مِنَ الْقَلْبِ مَا أُلْقِيَ إِلَيْهِ، فَيَعِي عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا الْعَقْلُ. فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنَّ مَا جَاءَ مِثْلَ ذَلِكَ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ، وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ وَصُورَتُهُ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَمَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، وَمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا وَيُحِيلُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَّا ضَعِيفُ النَّظَرِ وَالْإِيمَانِ، إِذْ جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَدَلَائِلُ الْعُقُولِ لَا تُحِيلُهُ.
(قَالَتْ عَائِشَةُ) : قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، سِيَّمَا إِذَا جَوَّزْنَا الْعَطْفَ بِحَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ دَاخِلٍ تَحْتَهُ، بَلْ كَانَ ثَابِتًا بِإِسْنَادٍ آخَرَ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيقِ تَأْيِيدًا لِأَمْرِ الشِّدَّةِ وَتَأْكِيدًا لَهُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَطْفٍ. (وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ: فَيَنْفَصِلُ الْوَحْيُ عَنْهُ وَالْحَالُ أَنَّ (جَبِينَهُ) أَيْ: مُقَدَّمَ وَجْهِهِ (لَيَتَفَصَّدُ) أَيْ: لَيَتَصَبَّبُ (عَرَقًا) . تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، وَالْمَعْنَى لَيَسِيلُ عَرَقُهُ مِثْلَ سَيَلَانِ الدَّمِ مِنَ الْعَرَقِ الْمَفْصُودِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute