وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ (أَمَّا بَعْدُ) أَيْ: وَأَرَادَ أَنْ يَخْطُبَ لَهُ خُطْبَةً عَظِيمَةً وَمَوْعِظَةً جَسِيمَةً تَعْجَزُ عَنْهُ الْبُلَغَاءُ، وَيَتَحَيَّرُ فِيهِ الْفُصَحَاءُ، لِيَعْلَمَ الْعُقَلَاءُ أَنَّهُمْ بِجَنْبِهِ مِنَ الْمَجَانِينِ وَالسُّفَهَاءِ، (قَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ) ، الْمُتَقَدِّمَةَ الدَّالَّةَ عَلَى جَزَالَةِ الْخَاتِمَةِ (فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) . يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّثْلِيثُ بِالْأُولَى كَمَا كَانَ لَهُ الْعَادَةُ أَوْ بِغَيْرِهَا، كَمَا يُفِيدُ حَقِيقَةُ الْإِعَادَةِ مَعَ زِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي مَقَامِ الْإِفَادَةِ وَتَمَامِ الِاسْتِفَادَةِ (قَالَ) أَيْ: ضِمَادٌ (لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ) . بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ كَاهِنٍ وَهُوَ الْمُخْبِرُ عَنِ الْغَيْبِ بِعِبَارَاتٍ مُسَجَّعَةٍ وَإِشَارَاتٍ مُبْدِعَةٍ (وَقَوْلَ السَّحَرَةِ) جَمْعُ سَاحِرٍ وَهُوَ الْمُخَيَّلُ فِي الْعَيْنِ وَالذِّهْنِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ أَوْ مِنْ أَجْلِ فِعْلِهِ (وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ) ، جَمْعُ شَاعِرٍ وَهُوَ الْمُحَلَّى بِاللِّسَانِ فِي كُلِّ شَأْنٍ حَتَّى شَانَ مَا زَانَ وَزَانَ مَا شَانَ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَكَ تَارَةً إِلَى الْكَهَانَةِ وَمَرَّةً إِلَى السِّحْرِ، وَأُخْرَى إِلَى الشِّعْرِ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَقَالَةَ أَصْحَابِهَا (فَمَا سَمِعْتُ) أَيْ: مِنْهُمْ (مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ) . يَعْنِي فَلَوْ كُنْتَ مِنْهُمْ لَأَشْبَهَ كَلَامُكَ كَلَامَهُمْ، فَإِذَا كَانَ كَلَامُهُ أَبْلَغَ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ، فَلَا يَعُدُّهُ مَجْنُونًا إِلَّا السُّفَهَاءُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْكُهَّانَ وَالسَّحَرَةَ وَالشُّعَرَاءَ أَهْلَ الْبَلَاغَةِ وَالْمُتَصَرِّفِينَ فِي الْقَوْلِ عَلَى أَيِّ أُسْلُوبٍ شَاءُوا، فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى الْإِعْجَازِ أَيْ: جَاوَزَ كَلَامُكَ حَدَّ الْبَلَاغَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَابَلَ كَلَامَ ضِمَادٍ بِمَا تَقَدَّمَ لِيُظْهِرَ لَهُ كَمَالَ عَقْلِهِ، وَيَتَبَيَّنَ جَهْلُ أَعْدَائِهِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: طَابَقَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَ ضِمَادٍ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ مِنْ سُفَهَاءِ أَهْلِ مَكَّةَ أَنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ اعْتَقَدَ أَنَّهُ كَذَلِكَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ فِي الْخَلَاصِ؛ كَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا الْتَفَتَ إِلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى الْحَقِّ الْبَحْتِ وَالصِّدْقِ الْمَحْضِ، أَيْ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ أَتَكَلَّمُ كَلَامَ الْمَجَانِينِ، بَلْ كَلَامِي نَحْوُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ، فَتَفَكَّرْ فِيهِ هَلْ يَنْطِقُ الْمَجْنُونُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَنَحْوِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ - وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم: ٥١ - ٥٢] أَيْ: إِنَّهُمْ جَنَّنُوهُ لِأَجْلِ الْقُرْآنِ، وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَمَوْعِظَةٌ لِلْعَالِمِينَ، وَكَيْفَ يُجَنَّنُ مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ. قُلْتُ بَلِ الْمَجْنُونُ مَنْ غَفَلَ عَنْ ذِكْرِ الْحَقِّ وَاشْتَغَلَ بِكَلَامِ الْخَلْقِ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اذْكُرُوا اللَّهَ حَتَّى يَقُولُوا مَجْنُونٌ) ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْعَرَبُ رُبَّمَا اسْتَعْمَلُوا هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَقَدْ شَهِدَ بِهِ التَّنْزِيلُ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: ٣٦] قَالَ الشَّاعِرُ:
ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
(وَلَقَدْ بَلَغْنَ) أَيْ: هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتُ الْجَامِعَاتُ الْمُحِيطَاتُ بِحُرُوفٍ كَاللَّآلِئِ الْمَنْظُومَاتِ الَّتِي يَعْجِزُ الْغَوَّاصُ عَنْ إِخْرَاجِهَا وَإِبْرَازِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الدِّلَالَاتِ الْبَيِّنَةِ عَلَى إِعْجَازِهَا مِنْ كَمَالِ إِيجَازِهَا (قَامُوسَ الْبَحْرِ) ، أَيْ: مُعْظَمَ بَحْرِ الْكَلَامِ وَوَسَطَ لُجَّةِ الْمَرَامِ، وَالْمَعْنَى بَلَغَتْ غَايَةَ الْفَصَاحَةِ وَنِهَايَةَ الْبَلَاغَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الْقَمْسُ الْغَوْصُ وَالْغَمْسُ وَالْقَوْمَسُ مُعْظَمُ مَاءِ الْبَحْرِ كَالْقَامُوسِ وَالْقَامُوسُ الْبَحْرُ أَوْ أَبْعَدُ مَوْضِعٍ فِيهِ غَوْرًا (هَاتِ) : بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ: إِلَخْ (يَدَكَ أُبَايِعْكَ) : بِالْجَزْمِ جَوَابُ الْأَمْرِ (عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (فَبَايَعَهُ) . أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: بَلَغْنَا) أَيْ: بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ (نَاعُوسَ الْبَحْرِ) . بِالنُّونِ وَالْعَيْنِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ، حَيْثُ لَمْ يُذْكَرِ النَّاعُوسُ فِي الْقَامُوسِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ بَلَغْنَا وَهُوَ خَطَأٌ لَا سَبِيلَ إِلَى تَقْوِيمِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالرِّوَايَةُ لَمْ تَرِدْ لَهُ، وَنَاعُوسُ الْبَحْرِ أَيْضًا خَطَأٌ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِهِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَهِمُوا فِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ الرُّوَّادِ أَخْطَأَ فِيهِ، فَرُوِيَ مَلْحُونًا وَهَذَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُسْمَعُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَالصَّوَابُ فِيهِ قَامُوسُ الْبَحْرِ، وَهُوَ وَسَطُهُ وَمُعْظَمُهُ مِنَ الْقَمْسِ وَهُوَ الْغَوْصُ وَالْقَمَّاسُ الْغَوَّاصُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: بَلَغْنَا خَطَأٌ إِنْ أَرَادَ بِهِ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ، فَلَا نُنْكِرُهُ لِأَنَّا مَا وَجَدْنَاهَا فِي الْأُصُولِ، وَإِنْ أَرَادَ بِحَسَبِ الْمَبْنَى فَمَعْنَاهَا صَحِيحَةٌ أَيْ: قَدْ وَصَلْنَا إِلَى لُجَّةِ الْبَحْرِ وَمَحَلِّ اللَّآلِئِ وَالدُّرِّ، فَيَجِبُ أَنْ نَقِفَ عَلَيْهِ وَنَغُوصَ فِيهِ اسْتِخْرَاجًا لِفَوَائِدِهِ وَالْتِقَاطًا لِفَرَائِدِهِ قُلْتُ: الشَّيْخُ نَفَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ الْحَقِيقِيَّ إِذْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِإِشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ أَشْبَهَ فَتَدَبَّرْ وَتَنَبَّهْ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ (نَاعُوسَ الْبَحْرِ) أَيْضًا خَطَأٌ، فَلَيْسَ بِصَوَابٍ، أَمَّا رِوَايَةُ فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute