(وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ) أَيْ: عَلِمًا يَقِينًا (أَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (خَارِجٌ. أَيْ: ظَاهِرٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ (وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ) ، أَيْ: مِنْ نَسْلِ إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ أَبُو الْعَرَبِ، بَلْ كُنْتُ أَظُنُّهُ أَنَّهُ مِنْ مَعْشَرِ بَنِي إِسْحَاقَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ وَبَلِيَّةٌ غَامِضَةٌ، فَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا وَالْحَقُّ أَحَقَّ أَنْ يُتَّبَعَ. (وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ) : بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: أَصِلُ (إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى خِدْمَتِهِ وَدَوْلَتِهِ وَحَضْرَةِ رُؤْيَتِهِ (لَأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ) أَيْ: دَوْلَةَ مُلَاقَاتِهِ وَسَعَادَةَ مُتَابَعَتِهِ، (وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ) أَيْ: وَلَوْ صِرْتُ فِي مَقَامِهِ، وَوَصَلْتُ إِلَى مَوْضِعِ قِيَامِهِ (لَغَسَلْتُ) أَيْ: وَجْهِي (عَنْ قَدَمَيْهِ) أَيْ: غَسْلًا صَادِرًا عَنْ مَاءِ أَقْدَامِهِ، لِمَا أَرَى لَهُ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ وَإِقْدَامِهِ، أَوِ التَّقْدِيرُ غَسَلْتُ الْغُبَارَ وَالْوَسَخَ عَنْ قَدَمَيْهِ فَضْلًا عَنْ تَقْبِيلِ يَدَيْهِ، (وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ) . بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّثْنِيَةِ الْمُنْبِئَةِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ صِدْقَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا شَحَّ بِالْمُلْكِ وَرَغِبَ فِي الرِّيَاسَةِ، فَآثَرَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ لَوَفَّقَهُ، كَمَا وَفَّقَ النَّجَاشِيَّ، وَمَا زَالَتْ عَنْهُ الرِّيَاسَةُ. وَقَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ: اخْتُلِفَ فِي زَمَانِهِ، وَالْأَرْجَحُ بَقَاؤُهُ عَلَى الْكُفْرِ، فَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ كَتَبَ مِنْ تَبُوكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي مُسْلِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَبَ، بَلْ هُوَ عَلَى نَصْرَانِيَّتِهِ. قُلْتُ: لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى مَوْتِهِ بِالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا رُجِّحَ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ.
(ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَهُ) . أَيْ: فَعَظَّمَهُ، وَبَالَغَ فِي مُحَافَظَتِهِ فَصَارَ سَبَبًا لِبَقَاءِ الْمُلْكِ فِي ذُرِّيَّتِهِ، بِخِلَافِ كِسْرَى حَيْثُ شَقَّهُ وَمَزَّقَهُ، فَمَزَّقَ اللَّهُ مُلْكَهُ، وَفَرَّقَ وَلَدَهُ، وَأَخْرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُلْكَهُ. قَالَ سَيْفُ الدِّينِ: (أَرْسَلَنِي مَلِكُ الْعَرَبِ إِلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ فِي شَفَاعَةٍ، فَقَبِلَهَا وَعَرَضَ عَلَيَّ الْإِقَامَةَ فَأَبَيْتُ، فَقَالَ: لَأُتْحِفَنَّكَ بِتُحْفَةٍ سَنِيَّةٍ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُنْدُوقِهِ مِقْلَمَةً مِنْ ذَهَبٍ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا كِتَابًا قَدْ زَالَ أَكْثَرُ حُرُوفِهِ، فَقَالَ: هَذَا كِتَابُ نَبِيِّكُمْ لِجَدِّي قَيْصَرَ مَا زِلْنَا نَتَوَارَثُهُ إِلَى الْآنَ، وَقَدْ أَوْصَانَا بِأَنَّهُ مَا دَامَ عِنْدَنَا لَا يَزُولُ الْمُلْكُ مِنَّا، فَنَحْنُ نَحْفَظُهُ لِيَدُومَ الْمُلْكُ لَنَا) ذَكَرَهُ أَكْمَلُ الدِّينِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(وَقَدْ سَبَقَ تَمَامُ الْحَدِيثِ) : وَهُوَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ (فِي بَابِ الْكِتَابَةِ إِلَى الْكُفَّارِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute