وَهِيَ الْمُسَاوَاةُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي الزِّيَادَةِ فَهُوَ فِي النُّقْصَانِ، لِأَنَّ التَّوَقُّفَ مَنْفِيٌّ فِي طَوْرِ الْإِنْسَانِ (فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ) أَيْ: يَزِيدُ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ (حَتَّى يَتِمَّ) . أَيْ: يَكْمُلُ بِالْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِهَا، وَلِذَا نَزَلَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: ٣] إِنْجَازًا لِمَا وَعَدَهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: ٣٢] وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ إِلَى الْآنَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَلْفِ مِنَ الزَّمَانِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ تَحْتَ أَشِعَّةِ أَنْوَارِهِ، وَفِي بَرَكَةِ لَمَعَانِ أَسْرَارِهِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ أَخْبَارِهِ، وَالْمُسْتَفَاضَةِ مِنْ آثَارِهِ. (وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ قَاتَلْتُمُوهُ، فَيَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ) ، أَيْ: يُصِيبُ مِنْكُمْ وَتُصِيبُونَ مِنْهُ (وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى) ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الدَّارَ ابْتِلَاءٌ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَا دُمْتَ فِي هَذِهِ الدَّارِ لَا تَسْتَغْرِبْ وُقُوعَ الْأَكْدَارِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: ٤٩] وَفُسِّرَ الْبَلَاءُ بِالْمِحْنَةِ وَالْمِنْحَةِ؟ فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ الْحَاصِلِ لِلْعِبَادِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْبَلَاءَ لِأَهْلِ الْوَلَاءِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: ( «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءِ» ) . (ثُمَّ يَكُونُ لَهَا) أَيْ: لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهَا (الْعَاقِبَةُ) . أَيِ: الْمَحْمُودَةُ. قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: ١٣٢] ، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: ١٧] قَالَ النَّوَوِيُّ: يَعْنِي نَبْتَلِيهِمْ فِي ذَلِكَ لِيَعْظُمَ أَجْرُهُمْ بِكَثْرَةِ صَبْرِهِمْ وَبَذْلِ وُسْعِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ.
(وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيَّ أَوِ الشَّأْنَ (لَا يَغْدِرُ) ، يَعْنِي: وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِصْحَابِ، وَلِذَا أَعْرَضَ عَنِ الْجُمْلَةِ الْمَدْخُولَةِ الْمَعْلُولَةِ. (وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، قُلْتُ: رَجُلٌ ائْتَمَّ) أَيْ: هُوَ رَجُلٌ اقْتَدَى (بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. قَالَ) أَيْ: أَبُو سُفْيَانَ (ثُمَّ قَالَ: بِمَا يَأْمُرُكُمْ) ؟ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَغْلِيبًا أَوِ الْتِفَاتًا، وَلِذَا عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: قُلْتُ إِلَى قَوْلِهِ: (قُلْنَا: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ) ، أَيْ: بِالْعِبَادَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ (وَالصِّلَةِ) ، أَيْ: صِلَةِ الرَّحِمِ وَكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ (وَالْعَفَافِ) ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيِ: الْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَكُلِّ مَا يُخَالِفُ الْمَكَارِمَ (قَالَ: إِنْ يَكْ مَا تَقُولُ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ) ، فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: قَوْلُ هِرَقْلَ: (إِنْ يَكُ مَا تَقُولُ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ) أَخَذَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ، فَفِي التَّوْرَاةِ هَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ عَلَامَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَفَهُ بِالْعَلَامَاتِ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى النُّبُوَّةِ؟ فَهُوَ الْمُعْجِزَةُ الظَّاهِرَةُ الْخَارِقَةُ لِلْعَادَةِ، وَهَكَذَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَكْمَلُ الدِّينِ: وَمَعَ هَذَا لَمْ يُؤْمِنْ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِتِلْكَ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَيَّشَ الْجُيُوشَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَاتَلَهُمْ، وَلَمْ يُمَصِّرْ فِي تَجْهِيزِ الْجَيْشِ عَلَيْهِمْ مِنَ الرُّومِ وَغَيْرِهِ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، فَيَهْزِمُهُمُ اللَّهُ وَيُهْلِكُهُمْ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ إِلَّا أَقَلُّهُمْ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَقَدْ فُتِحَ أَكْثَرُ بِلَادِ الشَّامِ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ وَبِهَلَاكِهِ هَلَكَتِ الْمَمْلَكَةُ الرُّومِيَّةُ.
قُلْتُ: يَعْنِي الرُّومِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ، ثُمَّ انْقَلَبَتْ لَهُمُ الْمَمْلَكَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِالْغَلَبَةِ وَالشَّوْكَةِ الْإِيمَانِيَّةِ، حَتَّى أَقَامَهُمُ اللَّهُ لِمُقَاتَلَةِ الطَّائِفَةِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَلِمُقَابَلَةِ الرَّافِضَةِ الْكُفْرَانِيَّةِ، وَقَامُوا بِخِدْمَةِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مِنْ عِمَارَتِهِمَا وَخَيْرَاتِهِمَا وَمَبَرَّاتِهِمَا فِي الْبَلَدَيْنِ الْمُنِيفَيْنِ، وَإِرْسَالِ أُمَرَاءِ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لَا مِنَ الطَّرِيقِ الْوَاصِلِ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، مَعَ مَا فِيهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الشَّرِيعَةِ، وَتَكْرِيمِ الْعُلَمَاءِ، وَاحْتِرَامِ الْمَشَايِخِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَجَزَاهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْدَاءِ إِلَى يَوْمِ النِّدَاءِ، هَذَا وَمَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَمَا أَعْقَلَهُ لَوْ مَعْقُولُهُ أَكْلَمَهُ، لَكِنْ مَا سَاعَدَهُ لِعَدَمِ السَّعَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ وَوُجُودِ الشَّقَاوَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ طَمَعُ الرِّيَاسَةِ وَظُهُورُ الْكَمَالِ، وَالْمَيْلُ إِلَى وُصُولِ الْمَالِ وَحُصُولِ الْمَنَالِ وَالْغَفْلَةِ عَنِ الْمَآلِ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَى النَّكَالِ، وَلِذَا قَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute