(شَيْئًا) أَيْ: مِمَّا يَطْعَنُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ (غَيْرَ هَذِهِ) . أَيْ: غَيْرَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا يَجُوزُ احْتِمَالُ الْغَدْرَةِ فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ (قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ) أَيْ: مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَدَعْوَى الرِّسَالَةِ (أَحَدٌ قَبْلَهُ) ؟ أَيْ: مِمَّنْ سَبَقَهُ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ الْمَعْرُوفِينَ كَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. (قُلْتَ: لَا، ثُمَّ قَالَ) أَيْ: بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَرَادَ أَنْ يَشْرَعَ فِي تَبْيِينِ تَوْجِيهَاتِهَا مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْعَادَةِ قَالَ: (لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فِيكُمْ، فَزَعَمْتَ) أَيْ: فَأَجَبْتَ (أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا) . أَيْ: تُوقَعُ بَعْثَتُهُمْ فِي أَحْسَابِ أَقْوَامِهُمْ، فَتَعْدِيَتُهُ بِفِي لِتَضْمِينِ مَعْنَى الْإِيقَاعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي بِمَعْنَى (مِنْ) عَلَى مَا جَوَّزَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ وَالْمُغْنِي، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا يَعْنِي عَمَّا تَكَلَّفَ بِهِ الطِّيبِيُّ لِقَوْلِهِ: هُوَ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ أَيْ: يُبْعَثُ وَذُو حَسَبٍ، وَهُوَ هُوَ كَقَوْلِكَ فِي الْبَيْضَةِ عِشْرُونَ رَطْلًا، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا هَذَا الْمِقْدَارُ، قِيلَ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَبْعَدُ مِنِ انْتِحَالِهِ الْبَاطِلَ، وَأَقْرَبُ إِلَى انْقِيَادِ النَّاسِ لَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنَ النَّقْلِ وَيُسَاعِدُهُ الْعَقْلُ.
(وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ) ؟ أَيْ: فِي جُمْلَتِهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُلُوكِ، وَلَوْ رُوِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ (فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ) أَيْ: فِي نَفْسِي بِمُقْتَضَى رَأْيِي (لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ) أَيْ: لَوْ كَانَ ظَهَرَ مِنْهُمْ سُلْطَانٌ (قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ) أَيْ: سُلْطَتَهُمْ وَهَذَا دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ لَا يُخَالِفُهُ نَقْلٌ (وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ أَضُعَفَاؤُهُمْ) أَيْ: أَفُقَرَاءُ النَّاسِ وَأَهْلُ خُمُولِهِمْ (أَمْ أَشْرَافُهُمْ) ؟ أَيْ: أَغْنِيَاؤُهُمْ وَأَهْلُ خُيُولِهِمْ (فَقُلْتَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ) . أَيِ: ابْتِدَاءٌ كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي أَتْبَاعِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الضُّعَفَاءَ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، فَلِكَوْنِ الْأَشْرَافِ يَأْنَفُونَ مِنْ تَقَدُّمِ مِثْلِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَالضُّعَفَاءُ لَا يَأْنَفُونَ، فَيُسْرِعُونَ إِلَى الِانْقِيَادِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ. (وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ فِي أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ) : اللَّامُ لَامُ الْجَحُودِ أَيْ: لِيَتْرُكَ (الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ) . أَيْ: فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ أَقْبَحُ وَأَشَدُّ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: ٢١] (وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ) : بِالْوَاوِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقَالُ: فَكَذَلِكَ أَيْ: لَا يَخْرُجُ وَلَا يَرْجِعُ (الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَتُهُ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: أُنْسُهُ وَفَرَحُهُ (الْقُلُوبَ) أَيْ: فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي أَمْرٍ مُحَقَّقٍ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَنْ دَخَلَ فِي الْأَبَاطِيلِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَدْ عَبَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبَشَاشَةِ تَارَةً بِالطَّعْمِ، وَأُخْرَى بِالْحَلَاوَةِ، فَإِنَّ مَنْ ذَاقَ لَذَّةَ شَيْءٍ أَحَبَّهُ لَا مَحَالَةَ، وَمَنْ لَمْ يَذُقْ لَمْ يَعْرِفْ، وَمِنْ مَشْرَبِ الْعَارِفِينَ لَمْ يَغْرِفْ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إِنَّمَا رَجَعَ مَنْ رَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ يَعْنِي فَمَنْ وَصَلَ مَعَ الْفَرِيقِ إِلَى الرَّفِيقِ، فَهُوَ كَالرَّفِيقِ فِي الْأَمْنِ الدَّاخِلِ فِي الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَقَدْ قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا أَبُو الْحَسَنِ الْبَكْرِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السِّرِّيَّ: الْإِيمَانُ إِذَا دَخَلَ الْقَلْبَ أُمِنَ السَّلْبُ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْإِشَارَةَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَالدَّلَالَةَ عَلَى هَذَا الْمَبْنَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} [البقرة: ٢٥٦] أَيْ: بِمَا سِوَى اللَّهِ، {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة: ٢٥٦] أَيْ: حَقَّ الْإِيمَانِ، {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: ٢٥٦] أَيْ: لَا انْقِطَاعَ وَلَا انْفِصَالَ وَلَا اتِّحَادَ وَلَا اتِّصَالَ (وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ) ؟ وَلَعَلَّهُ تَرَكَ الْوَاسِطَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute