مُنَافَاةَ، فَإِنَّ الْإِعْطَاءَ كَانَ فِي السَّمَاءِ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ بِقَرِينَةِ إِعْطَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَقَامِ الْأَعْلَى، وَنُزُولِ الْمَلَكِ الْمُعَظَّمِ لِتَعْظِيمِ مَا أَعْطَى، وَبِشَارَةِ مَا خُصَّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، نَعَمْ يُشْكِلُ هَذَا بِكَوْنِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةً، وَقَضِيَّةُ الْمِعْرَاجِ بِالِاتِّفَاقِ مَكِّيَّةٌ، فَيُدْفَعُ بِاسْتِثْنَاءِ الْخَوَاتِيمِ مِنَ السُّورَةِ، فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ أَكْثَرِهَا، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمَلَكِ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى إِيجَاءَهَا بِلَا وَاسِطَةِ جِبْرِيلَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، فَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّ السُّورَةَ بِكَامِلِهَا مَدَنِيَّةٌ، فَقَدْ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ أُعْطِيَ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ اسْتُجِيبَ لَهُ فِيمَا لُقِّنَ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: ٢٨٥] إِلَى قَوْلِهِ: {أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: ٢٨٦] وَلِمَنْ يَقُومُ بِحَقِّهَا مِنَ السَّائِلَيْنَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي كَلَامِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْإِعْطَاءَ بَعْدَ الْإِنْزَالِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاسْتِجَابَةُ وَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِالطَّلَبِ، وَالسُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ وَالْمِعْرَاجُ فِي مَكَّةَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا مِنْ قَبِيلِ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: ١٠] وَالنُّزُولُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ قَبِيلِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى - عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: ٣ - ٥] اهـ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ وَقَعَ تَكْرَارُ الْوَحْيِ فِيهِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَاهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِلَا وَاسِطَةٍ، ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ فِي الْمَدِينَةِ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ، وَبِهَذَا يَتِمُّ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ نَزَلَ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: ١٩٣ - ١٩٤] وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الشَّيْخِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْإِعْطَاءِ اسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ مِمَّا اشْتَمَلَ الْإِتْيَانُ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي نُزُولَهَا بَعْدَ الْإِسْرَاءِ إِلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أُوثِرَ الْإِعْطَاءُ لِمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِكَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: ( «أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي» ) وَكَانَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ اللَّهِ تَعَالَى مَقَامَاتٌ يَغْبِطُهُمَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. أَحَدُهُمَا فِي الدُّنْيَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَثَانِيهِمَا فِي الْعُقْبَى وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَلَا اهْتَمَّ فِيهِمَا إِلَّا بِشَأْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ. (وَغُفِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ) . بِالرَّفْعِ عَلَى نِيَابَةِ الْفَاعِلِ أَوْ هُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيِ الْكَبَائِرُ الْمُهْلِكَاتُ الَّتِي تُقْحِمُ صَاحِبَهَا النَّارَ إِنْ لَّمْ يَتَجَاوَزْ عَنْهُ الْمَلِكُ الْغَفَّارُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُعِدَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الْكَامِلَةَ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ الشَّامِلَةَ، وَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرَ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ٤٨] بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ الْمَشِيئَةِ فِي الْحَدِيثِ لِظُهُورِ الْقَضِيَّةِ فِي حُكْمِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، هَذَا وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمُرَادُ بِغُفْرَانِهِ أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا تُعَذَّبُ أُمَّتُهُ أَصْلًا، إِذْ قَدْ عُلِمَ مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ وَإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَبْقَى خُصُوصِيَّةٌ لِأُمَّتِهِ، وَلَا مَزِيَّةٌ لِمِلَّتِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ غَالِبُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهَا أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute