للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

رُفِعَ الْحِجَابُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَأُخْبِرَ النَّاسَ بِمَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ مُسْتَأْنِفًا مُبَيِّنًا. (مَا يَسْأَلُونِي) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتُخَفَّفُ (عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ) ، أَيْ أَخْبَرْتُهُمْ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُسْتَحْضِرَةِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ مَا سَأَلُونِي بِصِيغَةِ الْمَاضِيَةِ (وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ) أَيْ: مَعَ جَمْعٍ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَالسِّبَاقُ وَاللَّحَاقُ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ غَيْرُ رُؤْيَةِ السَّمَاءِ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ قِيلَ: رُؤْيَتُهُ إِيَّاهُمْ فِي السَّمَاءِ مَحْمُولَةٌ عَلَى رُؤْيَةِ أَرْوَاحِهِمْ إِلَّا عِيسَى، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ رُفِعَ بِجَسَدِهِ، وَقَدْ قِيلَ فِي إِدْرِيسَ ذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِينَ صَلَّوْا مَعَهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيُحْتَمَلُ الْأَرْوَاحُ، وَيُحْتَمَلُ الْأَجْسَادُ بِأَرْوَاحِهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ صَلَاتَهُ لَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ قَبْلَ الْعُرُوجِ. قُلْتُ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَهُمْ، ثُمَّ أَجْسَادُهُمْ كَأَرْوَاحِهِمْ لَطِيفَةٌ غَيْرَ كَثِيفَةٍ، فَلَا مَانِعَ لِظُهُورِهِمْ فِي عَالَمِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِقُدْرَةِ ذِي الْجَلَالِ.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ تَشَكُّلَ الْأَنْبِيَاءِ وَتَصَوُّرَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ أَجْسَادِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ قَوْلُهُ: (فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي) : فَإِنَّ حَقِيقَةَ الصَّلَاةِ وَهِيَ الْإِتِيَانُ بِالْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْأَشْبَاحِ لَا لِلْأَرْوَاحِ، لَا سِيَّمَا وَكَالتَّصْرِيحِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ قَوْلُهُ: (فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ) أَيْ: نَوْعٌ وَسَطٌ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ خَفِيفُ اللَّحْمِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (جَعْدٌ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَفِيهِ مَعْنَيَانِ. أَحَدُهُمَا: جُعُودَةُ الْجِسْمِ، وَهُوَ اجْتِمَاعُهُ. وَالثَّانِي: جُعُودَةُ الشَّعْرِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ هَاهُنَا لِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ رَجِلُ الشَّعْرِ كَذَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى الثَّانِي أَيْضًا لِأَنَّهُ يُقَالُ: شَعْرٌ رَجِلٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ شَدِيدَ الْجُعُودَةِ، (كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ) ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ (وَإِذَا عِيسَى قَائِمٌ يُصَلِّي) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا حَالَةُ حُضُورِ الرَّبِّ، وَكَمَالِ الْقُرْبِ فِي الْحَالَاتِ، وَأَنْوَاعِ الِانْتِقَالَاتِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ اللَّذَّاتِ عِنْدَ عُشَّاقِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، (أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ) ، نِسْبَةً إِلَى ثَقِيفٍ قَبِيلَةٍ، وَلَيْسَ هَذَا أَخًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، كَمَا فِي بَعْضِ حَوَاشِي الْمَصَابِيحِ، فَإِنَّهُ هُذَلِيٌّ (وَإِذَا بِإِبْرَاهِيمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ) : أَخْبَارٌ مُتَعَاقِبَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمَعْنَى أَكْثَرُ النَّاسِ شَبَهًا بِإِبْرَاهِيمَ (صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ) : هَذَا مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ مَنْ بَعْدَهُ أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: صَاحِبُكُمْ نَفْسَهُ وَذَاتَهُ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: ٢٢] ثُمَّ رُؤْيَتُهُ إِيَّاهُمْ يُصَلُّونَ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَثْنَاءِ الْإِسْرَاءِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ فِي نَفْسِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَهُوَ الْمَعْبَدُ الْأَعْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ الْفَاءُ التَّعْقِيبِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: (فَحَانَتِ الصَّلَاةُ) أَيْ: دَخَلَ وَقْتَهَا، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَا صَلَاةُ التَّحِيَّةِ، أَوْ يُرَادُ بِهَا صَلَاةُ الْمِعْرَاجِ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ (فَأَمَمْتُهُمْ) ، أَيْ صِرْتُ لَهُمْ إِمَامًا وَكُنْتُ لَهُمْ إِمَامًا. فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ رَأَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُصَلِّي وَأَمَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَنْبِيَاءَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَوَجَدَهُمْ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ فِي السَّمَاوَاتِ؟ فَالْجَوَابُ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُمْ وَصَلَّى بِهِمْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ صَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَوَجَدَهُمْ فِيهَا، وَأَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمْ وَصَلَاتُهُ مَعَهُمْ بَعْدَ انْصِرَافِهِ وَرُجُوعِهِ عَنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى اهـ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ حَيْثُ لَا يُخَالِفُهُ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ، مَعَ أَنَّ الْأُمُورَ الْخَارِقَةَ لِلْعَادَةِ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ خَارِجَةٌ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِلسَّيِّدِ عَبْدِ الْقَادِرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّ قَضِيبَ الْبَانِ مَا يُصَلِّي، فَقَالَ: لَا تَقُولُوا فَإِنَّ رَأْسَهُ دَائِمًا عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ سَاجِدٌ، وَتَشَكُّلَهُ بِصُوَرِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ طَبَقَةِ الصُّوفِيَّةِ، فَكَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي قُبُورِهِمْ، وَيَسْتَزِيدُونَ فِي سُرُورِهِمْ بِنُورِهِمْ وَظُهُورِهِمْ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ إِسْرَاءُ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ اسْتَقْبَلُوهُ، وَاجْتَمَعُوا مَعَهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي هُوَ مَقَرُّ الْأَصْفِيَاءِ، وَاقْتَدَوْا بِالْإِمَامِ الْحَيِّ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ رِجَالِ الطَّيِّ، ثُمَّ تَقَدَّمُوا بِطَرِيقِ الْمُشَايَعَةِ وَآدَابِ الْمُتَابَعَةِ إِلَى السَّمَاوَاتِ، وَتَوَقَّفَ كُلٌّ فِيمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمَقَامَاتِ، فَمَرَّ عَلَيْهِمْ وَخَصَّ كُلًّا بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَهُمْ أَظْهَرُ، وَالتَّرْحِيبُ وَالتَّعْظِيمُ لَدَيْهِ مَعَ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَحَمَلَةِ الْعَرْشِ وَالْكُرُوبِيِّينَ إِلَى أَنْ تَجَاوَزَ عَنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَانْتَهَى إِلَى مَقَامِ {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى - فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى - مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: ٩ - ١١] .

<<  <  ج: ص:  >  >>