الْهَاءُ بَعْدَ هَمْزَةٍ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا فِي الْمَصَابِيحِ، عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمْرٌ مِنْ أَهْرَاقَ يُهْرِيقُ - بِسُكُونِ الْهَاءِ - إِهْرَاقًا نَحْوَ اسْطَاعًا، وَأَصْلُهُ أَرَاقَ، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ هَاءً، ثُمَّ جُعِلَ عِوَضًا عَنْ ذَهَابِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَيْهَا الْهَمْزَةُ أَيْ: صُبُّوا " عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا " بِفَتْحِ السِّينِ أَيْ: دَلْوًا (مِنْ مَاءٍ - أَوْ ذَنُوبًا) : بِفَتْحِ الذَّالِ، وَهُوَ الدَّلْوُ أَيْضًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَقَالَ مِيرَكُ: شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ ; لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ فَرْقٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ اهـ.
وَمَالَ ابْنُ الْمَلَكِ إِلَى الثَّانِي، وَقَالَ: يَعْنِي خَيَّرَهُمْ بَيْنَ أَنْ يُهَرِيقُوا فِيهِ سَجْلًا غَيْرَ مَلْأَى، أَوْ ذَنُوبًا مَلْأَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: السَّجْلُ الدَّلْوُ فِيهِ الْمَاءُ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ، وَالذَّنُوبُ يُؤَنَّثُ، وَهُوَ مَا مُلِئَ مَاءً، فَقَوْلُهُ (مِنْ مَاءٍ) : أَيْ: فِي الْمَوْضِعَيْنِ زِيَادَةٌ وَرَدَتْ تَأْكِيدًا اهـ ; لِأَنَّ السَّجْلَ وَالذَّنُوبَ لَا يُسْتَعْمَلَانِ إِلَّا فِي الدَّلْوِ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ، وَقِيلَ: مِنْ لِلتَّبْيِينِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَاءٍ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ التَّطْهِيرَ بِغَيْرِ الْمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقَدْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ بِأَنَّ اسْتِدْلَالَ الشَّافِعِيَّةِ بِهَذَا الْخَبَرِ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ قَطْعًا مِنْ تَخْصِيصِ الْمَاءِ مَا اخْتَصَّ بِهِ الْمَاءُ مِنْ عُمُومِ الْمَوْجُودِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ الِابْتِدَارُ إِلَى تَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ لَا بَيَانُ مَا تُزَالُ بِهِ النَّجَاسَةُ.
قَالَ الْمُظْهِرَ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا وَرَدَ عَلَى النَّجَاسَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَاثَرَةِ وَالْمُغَالَبَةِ طَهَّرَهَا، وَعَلَى أَنَّ غُسَالَاتِ النَّجَاسَةِ طَاهِرَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَغَيُّرٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُطَهِّرَةً، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ الْمَاءُ الْمَصْبُوبُ عَلَى الْبَوْلِ أَكْثَرَ تَنْجِيسًا لِلْمَسْجِدِ مِنَ الْبَوْلِ نَفْسِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَطْهُرُ حَتَّى يُحْفَرَ ذَلِكَ التُّرَابُ، فَإِنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَجَفَّتْ أَوْ ذَهَبَ أَثَرُهَا طَهُرَتْ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ حَفْرٍ وَلَا صَبِّ مَاءٍ اهـ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: فَجَفَّتْ بِالشَّمْسِ اتِّفَاقِيٌّ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَفَافِ بِالشَّمْسِ أَوِ الرِّيحِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَثَرِ الذَّاهِبِ اللَّوْنُ أَوِ الرِّيحُ اهـ.
وَفَى شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ إِذَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ لَا تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ، وَلَا يَجِبُ حَفْرُ الْأَرْضِ وَلَا نَقْلُ التُّرَابِ إِذَا صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عَزَبًا أَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَتِ الْكِلَابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيئًا مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْلَا اعْتِبَارُهَا أَنَّهَا تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ كَانَ ذَلِكَ تَبْقِيَةً لَهَا بِوَصْفِ النَّجَاسَةِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ أَلْبَتَّةَ، إِذْ لَا بُدَّ مِنْهُ مَعَ صِغَرِ الْمَسْجِدِ وَعَدَمِ مَنْ يَتَخَلَّفُ فِي بَيْتِهِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ يَكُونُ فِي بُقَعٍ كَثِيرَةٍ حَيْثُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ، فَإِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ فِي الِاسْتِعْمَالِ يُفِيدُ تِكْرَارَ الْكَائِنِ مِنْهَا، أَوْ لِأَنَّ تَبْقِيَتَهَا نَجِسَةٌ يُنَافِي الْأَمْرَ بِتَطْهِيرِهِ، فَوَجَبَ كَوْنُهَا تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ بِخِلَافِ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِهْرَاقِ ذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ نَهَارًا، وَقَدْ لَا يَجِفُّ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَأَمَرَ بِتَطْهِيرِهَا بِالْمَاءِ بِخِلَافِ مُدَّةِ اللَّيْلِ؛ أَوْ لِأَنَّ الْوَقْتَ كَانَ إِذْ ذَاكَ قَدْ آنَ أُرِيدَ إِذْ ذَاكَ أَكْمَلُ الطَّهَارَتَيْنِ الْمُتَيَسَّرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، هَذَا إِذَا قُصِدَ تَطْهِيرُ الْأَرْضِ صُبَّ الْمَاءُ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَجُفِّفَتْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِخِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ، وَكَذَا لَوْ صُبَّ عَلَيْهَا مَاءٌ بِكَثْرَةٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَلَا رِيحُهَا، فَإِنَّهَا تَطْهُرُ اهـ كَلَامُهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَجْوِبَةً عَجِيبَةً بِعِبَارَةٍ غَرِيبَةٍ لَا بَأْسَ بِذِكْرِهَا قَالَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ فِي الْمَسْجِدِ يَحْتَمِلُ تَعَلُّقُهُ بِتَبَوَّلَ، وَبِمَا بَعْدَهُ فَقَطْ، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي مَذْهَبِ الْخَصْمِ، وَبِتَسْلِيمٍ أَنَّهُ عَائِدٌ لِلْجَمِيعِ كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَدَمَ الرَّشِّ إِنَّمَا هُوَ لِخَفَاءِ مَحَلِّ بَوْلِهَا، وَعَلَى التَّنَزُّلِ كَانَ هَذَا مِنْ قَبْلُ الْأَمْرِ بِقَتْلِهَا، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَعَدَمُ الرَّشِّ لَا يَسْتَلْزِمُ الطَّهَارَةَ، بَلِ الْعَفْوُ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِلْقَائِلِ بِالطَّهَارَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ النَّجِسَةَ تَطْهُرُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَغْمُرُهَا. قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّبُّ تَسْكِينَ رَائِحَةِ تِلْكَ الْحَالَةِ لَا لِلتَّطْهِيرِ، بَلِ التَّطْهِيرُ يَحْصُلُ بِالْيُبْسِ لِخَبَرِ: زَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا، أَوْ يُقَالُ: رُوِيَ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مَنْفَذًا، فَحِينَئِذٍ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا عَلَيْهِ اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute