فَقَالَ: (ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا) : بِالْجَزْمِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَقْرُوءَةِ فَعَلَى هَذَا يَشْكُلُ جَزْمُ قَوْلِهِ: (لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا) . وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِنْ كُتِبَ لَكُمْ وَعَمِلْتُمْ بِهِ لَا تَضِلُّوا أَيْ: لَا تَصِيرُوا ضَالِّينَ، وَفِي نُسْخَةٍ أَنْ لَا تَضِلُّوا وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا، أَوْ مَخَافَةَ أَنْ لَا تَضِلُّوا (فَتَنَازَعُوا) ، أَيْ: أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي رَأْيِهِمْ (وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ) : قِيلَ: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ بِلَفْظِ: وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُدْرَجًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ. (فَقَالُوا) ، أَيْ: بَعْضُهُمْ (مَا شَأْنُهُ) ؟ أَيْ حَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَهَجَرَ) ؟ بِفَتَحَاتٍ أَيِ: اخْتَلَفَ كَلَامُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَرَضِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: هَلْ تَغَيَّرَ كَلَامُهُ وَاخْتَلَطَ لِأَجْلِ مَا بِهِ مِنَ الْمَرَضِ، وَلَا يُجْعَلُ إِخْبَارًا فَيَكُونُ مِنَ الْفُحْشِ وَالْهَذَيَانِ، وَالْقَائِلُ عُمَرُ، وَلَا يُظَنُّ بِهِ ذَلِكَ. قَالَ الْخَطَابِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ تَوَهَّمَ الْغَلَطَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ ظَنَّ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا رَأَى مَا غَلَبَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَجَعِ وَقُرْبِ الْوَفَاةِ، مَعَ مَا غَشِيَهُ مِنَ الْكَرْبِ خَافَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِمَّا يَقُولُهُ الْمَرِيضُ مِمَّا لَا عَزِيمَةَ لَهُ فِيهِ، فَيَجِدُ الْمُنَافِقُونَ بِذَلِكَ سَبِيلًا إِلَى الْكَلَامِ فِي الدِّينِ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُهُ يُرَاجِعُونَهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ قَبْلَ أَنْ يَجْزِمَ فِيهَا بِتَحَتُّمٍ، كَمَا رَاجَعُوهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْخِلَافِ وَفِي كِتَابِ الصُّلْحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، فَأَمَّا إِذَا أَمَرَ بِالشَّيْءِ أَمْرَ عَزِيمَةٍ، فَلَا يُرَاجِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ اللَّهُ - تَعَالَى - رَفَعَ دَرَجَتَهُ فَوْقَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لَمْ يُنَزِّهْهُ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَالْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ وَقَدَّسَهَا فِي الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي مِثْلِ هَذَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَقِيقَتَهُ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى وَشِبْهِهِ رَاجَعَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَهَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَهَجَرَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى هَجَرَ بِغَيْرِ هَمْزٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ مَعْنَى هَجَرَ هَذَى، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا مِنْ قَائِلِهِ اسْتِفْهَامًا لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا تَكْتُبُوا أَيْ: لَا تَتْرُكُوا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَجْعَلُوهُ كَأَمْرِ مَنْ هَجَرَ فِي كَلَامِهِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَهْجُرُ، وَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى كَانَتْ خَطَأً مِنْ قَائِلِهَا لِأَنَّهُ قَالَهَا بِغَيْرِ ثَبْتٍ لِمَا أَصَابَهُ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ لِعَظْمِ مَا شَاهَدَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَفَاتِهِ. وَخَوْفِ الْفِتَنِ وَالضَّلَالِ بَعْدَ حَيَاتِهِ. أَقُولُ: لَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ لَزِمَ حَمْلُهَا عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (اسْتَفْهِمُوهُ) . بِكَسْرِ الْهَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِهَا، وَهَذَا فَتْحُ الْبَارِي قَوْلُهُ: أَهَجَرَ؟ بِهَمْزَةٍ عِنْدَ جَمِيعِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْجِهَادِ بِلَفْظِ قَالُوا: هَجَرَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ، وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَالُوا: هَجَرَ هَجَرَ.
قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى أَهَجَرَ أَفَحَشَ، يُقَالُ: هَجَرَ الرَّجُلُ إِذَا هَذَى، وَأَهَجَرَ إِذَا فَحَشَ وَتَعَسَّفَ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ سُكُونَ الْهَاءِ وَالرِّوَايَاتُ كُلُّهَا إِنَّمَا هِيَ بِفَتْحِهَا، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَلَخَصَّهُ الْقُرْطُبِيُّ تَلْخِيصًا حَسَنًا، ثُمَّ لَخَّصْتُهُ مِنْ كَلَامِهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: هَجَرَ الرَّاجِحُ فِيهِ إِثْبَاتُ الْهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَبِفَتَحَاتٍ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يَقَعُ مِنْ كَلَامِ الْمَرِيضِ مِمَّا لَا يَنْتَظِمُ، وَلَا يَعْتَدُّ بِهِ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ وَوُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَحِيلٌ ; لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي صِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣ - ٤] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنِّي لَا أَقُولُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا إِلَّا حَقًّا» ) . وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا مَالَ مَنْ قَالَ مُنْكِرًا عَلَى مَنْ يَتَوَقَّفُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ أَسْبَابِ الْكِتَابَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَتَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ، أَتَظُنُّ أَنَّهُ بِتَغَيُّرِهِ يَقُولُ الْهَذَيَانَ فِي مَرَضِهِ امْتَثِلْ أَمْرَهُ وَأَحْضِرْ مَا طَلَبَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَنْ شَكٍّ عَرَضَ لَهُ، وَلَكِنْ يَبْعُدُ أَنْ لَا يُنْكِرَهُ الْبَاقُونَ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَلَوْ أَنْكَرُوهُ لَنُقِلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ قَالَ ذَلِكَ مِنْ دَهْشَتِهِ وَحَيْرَتِهِ، كَمَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنْهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْقَائِلِ ذَلِكَ أَرَادَ اشْتِدَادَ وَجَعِهِ، فَأَطْلَقَ اللَّازِمَ، وَأَرَادَ الْمَلْزُومَ لِأَنَّ الْهَذَيَانَ الَّذِي يَقَعُ مِنَ الْمَرِيضِ يَنْشَأُ عَنْ شِدَّةِ مَرَضِهِ وَاشْتِدَادِ وَجَعِهِ. وَقِيلَ، قَالَ: لِإِرَادَةِ سُكُوتِ الَّذِينَ لَغَطُوا وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيهِ وَيُفْضِي فِي الْعَادَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَهَجَرَ فِعْلًا مَاضِيًا مِنَ الْهَجْرِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيِ الْحَيَاةَ، وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي مُبَالَغَةً لِمَا رَأَى مِنْ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَيَظْهَرُ تَرْجِيحُ ثَالِثِ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ، وَيَكُونُ قَائِلُ ذَلِكَ بَعْضَ مَنْ قَرُبَ دُخُولُهُ فِي الْإِسْلَامِ اه. وَأَقُولُ: هَذَا بَعِيدٌ مِنَ الْمَرَامِ وَمَقَامِ الْكِرَامِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ مَعَ الْأَصْحَابِ الْفِخَامِ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَلَا يَسْكُتُونَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ زَجْرٍ وَلَوْ بِالْكَلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute