للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

(فَذَهَبُوا) ، أَيْ: فَشَرَعَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ (يَرُدُّونَ عَلَيْهِ) ، أَيْ: هَذَا الرَّأْيَ صَرِيحًا بِخِلَافِ قَوْلِ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ تَلْوِيحًا (فَقَالَ: (دَعُونِي) ، أَيِ اتْرُكُونِي (ذَرُونِي) ، بِمَعْنَاهُ تَأْكِيدٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى دَعُونِي مِنَ النِّزَاعِ وَاللَّغَطِ الَّذِي شَرَعْتُمْ فِيهِ (فَالَّذِي أَنَا فِيهِ) ، أَيْ: مِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ، تَعَالَى، وَالتَّأَهُّبِ لِلِقَائِهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ (خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) . أَيْ أَفْضَلُ مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَاللَّغَطِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ( «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» ) . وَالِاخْتِلَافُ فِي الدِّينِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَثَانِيهَا: فِي صِفَاتِهِ وَإِنْكَارُهَا بِدْعَةٌ. وَثَالِثُهَا: فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمُحْتَمِلَةِ وُجُوهًا، فَهَذَا جَعَلَهُ اللَّهُ، تَعَالَى، رَحْمَةً وَكَرَامَةً لِلْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ لِلصَّحَابَةِ الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَعَ قَوْلِهِ: (ائْتُونِي أَكْتُبْ) فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَوَامِرَ يُقَارِنُهَا قَرَائِنُ تَنْقُلُهَا مِنَ النَّدْبِ إِلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ مَنْ قَالَ أَصْلُهَا النَّدْبُ، وَمِنَ الْوُجُوبِ إِلَى النَّدْبِ عِنْدَ مَنْ قَالَ أَصْلُهَا الْوُجُوبُ، فَلَعَلَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْقَرَائِنِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، بَلْ جَعَلَهُ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، فَاخْتَلَفَ اخْتِيَارُهُمْ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى رُجُوعِهِمْ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَأَدَّى اجْتِهَادُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى الِامْتِنَاعِ، وَلَعَلَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ جَازِمٍ، وَكَانَ هَذَا قَرِينَةً فِي إِرَادَةِ عَدَمِ الْوُجُوبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَأَمَرَهُمْ بِثَلَاثٍ) ، أَيْ: خِصَالٍ (فَقَالَ) : تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ (أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) ، مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ) ، أَيْ: أَكْرِمُوا الْوَافِدِينَ عَلَيْكُمْ وَالْوَاصِلِينَ إِلَيْكُمْ مِنْ حَوَالَيْكُمْ، وَأَعْطُوهُمُ الْجَائِزَةَ وَالْعَطِيَّةَ فِيمَا لَدَيْكُمْ (بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ) . أَيْ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً وَالتَّمْيِيزُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِكْرَامِ الْوُفُودِ وَضِيَافَتِهِمْ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ، وَتَرْغِيبًا لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ وَقَالُوا: سَوَاءً كَانَ الْوَفْدُ مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا ; لِأَنَّ الْكَافِرَ إِنَّمَا يَفِدُ غَالِبًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِنَا وَمَصَالِحِهِ. (وَسَكَتَ) ، أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (عَنِ الثَّالِثَةِ) ، أَيْ: نِسْيَانًا مِنْهُ أَوِ اقْتِصَارًا (أَوْ قَالَهَا) أَيْ ذَكَرَهَا (فَنَسِيتُهَا) . وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ (قَالَ سُفْيَانُ) . الظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ (هَذَا) ، أَيْ: قَوْلُهُ سَكَتَ (مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ) . أَيِ الْأَحْوَالِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: السَّاكِتُ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّاسِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ مُهَلَّبٌ: وَالثَّالِثَةُ تَجْهِيزُ جَيْشِ أُسَامَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» ) (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>