فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ جَبَّارًا مُتَسَلِّطًا مُتَعَدِّيًا عَنِ الْحَدِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَضُرُّهُ أَبَدًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِرَادَةَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا أَبْلَغُ فِي تَحْصِيلِ الْمُدَّعِي مِنَ الْمُؤَدِّي (إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ وَهُوَ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (قَدِ انْقَطَعَ الْوَحْيُ) أَيْ: فَلَا نَصِلُ إِلَى التَّيْقِينِ، فَلَابُدَّ لَنَا مِنْ الِاجْتِهَادِ الْمُبِينِ (وَتَمَّ الدِّينُ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَتَمَّ الدِّينُ أَيْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: ٣] (أَيَنْقُصُ) أَيِ: الدِّينُ وَهُوَ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَازِمٌ أَوْ مُتَعَدٍّ (وَأَنَا حَيٌّ) . جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ عَلَى طِبْقِ قَوْلِهِمْ جَاءَ زَيْدٌ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ (رَوَاهُ رَزِينٌ) .
وَفِي (الرِّيَاضِ) ، ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ النَّسَائِيُّ هَذَا اللَّفْظُ، وَمَعْنَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَنَقَلَ الْحَلَبِيُّ فِي حَاشِيَةِ الشِّفَاءِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ بِعَيْنِ الرِّضَا مِنَ اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مُرَادِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَزَلْ مُؤْمِنًا قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبَعْدَهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَرْضِيُّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ بِحَالِهِ غَيْرَ مَغْضُوبٍ فِيهَا عَلَيْهِ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ سَيُؤْمِنُ وَيَصِيرُ مِنْ خُلَاصَةِ الْأَبْرَارِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ لَاسْتَوَى الصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ الَّتِي قَالَهَا الْأَشْعَرِيُّ فِي حَقِّ الصِّدِّيقِ لَمْ تُحْفَظْ عَنْهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَالصَّوَابُ أَنَّ الصِّدِّيقَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ فِي حَالِ كُفْرٍ بِاللَّهِ اه. وَهُوَ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْ مَشَايِخِنَا وَمِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَنَقَلَ ابْنُ ظُفَرَ بَلْ فِي أَنْبَاءِ نُجَبَاءِ الْأَنْبَاءِ، أَنَّ الْقَاضِي أَبَا الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الزَّبِيدِيَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى: (مَعَالِي الْعَرْشِ إِلَى عَوَالِي الْفَرْشِ) أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: اجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَعَيْشُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي لَمْ أَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطُّ، وَقَدْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، وَأَنَّ أَبَا قُحَافَةَ أَخَذَ بِيَدِي وَانْطَلَقَ بِي إِلَى مَخْدَعٍ فِيهِ الْأَصْنَامُ فَقَالَ: هَذِهِ آلِهَتُكَ الشُّمُّ الْعُلَى، فَاسْجُدْ لَهَا وَخَلَّانِي وَمَضَى، فَدَنَوْتُ مِنَ الصَّنَمِ فَقُلْتُ: إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي فَلَمْ يُجِبْنِي، فَقُلْتُ: إِنِّي عَارٍ فَاكْسُنِي فَلَمْ يُجِبْنِي، فَأَخَذْتُ صَخْرَةً فَقُلْتُ: إِنِّي مُلْقٍ عَلَيْكَ هَذِهِ الصَّخْرَةَ فَإِنْ كُنْتَ إِلَهًا فَامْنَعْ نَفْسَكَ فَلَمْ يُجِبْنِي، فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ الصَّخْرَةَ فَخَرَّ لِوَجْهِهِ وَأَقْبَلَ أَبِي فَقَالَ: مَا هَذَا يَا بُنَيَّ فَقُلْتُ: هُوَ الَّذِي تَرَى، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى أُمِّي فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ: دَعْهُ فَهُوَ الَّذِي نَاجَانِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَقُلْتُ: يَا أُمَّهُ! مَا الَّذِي نَاجَاكِ بِهِ؟ قَالَتْ: لَيْلَةَ أَصَابَنِي الْمَخَاضُ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي أَحَدٌ، فَسَمِعْتُ هَاتِفًا يَقُولُ: يَا أَمَةَ اللَّهِ عَلَى التَّحْقِيقِ أَبْشِرِي بِالْوَلَدِ الْعَتِيقِ، اسْمُهُ فِي السَّمَاءِ الصِّدِّيقُ لِمُحَمَّدٍ صَاحِبٌ وَرَفِيقٌ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَمَّا انْقَضَى كَلَامُ أَبِي بَكْرٍ نَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَالَ: صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ اه. وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ: كُنْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الْكُفْرِ لَمَا صَدَقَ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَوِ اتَّخَذْتُ أَحَدًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» ) هُوَ أَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ مَا سَبَقَ مُشَابِهًا لِمَا وَقَعَ مِنَ الْخَلِيلِ فِي ضَرْبِ الصَّنَمِ وَمُخَالَفَةِ الْأَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute