وَالْحَالُ أَنَّهُ مِنَ الْأَجَانِبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَكْثَرِهِنَّ، لَاسِيَّمَا وَهُوَ غَيُورٌ غَضُوبٌ غَالِبٌ عَلَيْهِ الصِّفَةُ الْجَلَالِيَّةُ (قُمْنَ) أَيْ: مِنْ مَكَانِهِنَّ (فَبَادَرْنَ بِالْحِجَابِ) ، أَيْ سَارَعْنَ إِلَى حِجَابِهِنَّ عَلَى مُقْتَضَى آدَابِهِنَّ (فَدَخَلَ عُمَرُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْحَكُ) ، أَيْ يَتَبَسَّمُ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ عُمَرَ مَعَ غَلَبَةِ قَهْرِهِ وَشِدَّةِ سَطْوَتِهِ كَانَ مُظْهِرًا لِبَسْطِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ) أَيْ: عُمَرُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيْ أَدَامَ اللَّهُ فَرَجَكَ الْمُوجِبَ لِبُرُوزِ سِنِّكَ وَظُهُورِ نُورِكَ، لَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَظُهُورِ أَمْرٍ عَجِيبٍ، فَأَطْلِعْنِي عَلَيْهِ وَشَرِّفْنِي بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ (قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي) ، أَيْ فِي حَالَةٍ غَرِيبَةٍ وَمَقَالَةٍ عَجِيبَةٍ (فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ) أَيْ: بِالْإِذْنِ (ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ) . أَيْ بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَكَانِهِنَّ وَإِخْفَاءِ حَالِهِنَّ وَشَأْنِهِنَّ خَوْفًا مِنْكَ وَهَيْبَةً لَكَ (قَالَ عُمَرُ) أَيْ: خِطَابًا لَهُنَّ (يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ! أَتَهَبْنَنِي) : بِفَتْحِ الْهَاءِ، يُقَالُ: هِبْتُ الرَّجُلَ بِكَسْرِ الْهَاءِ إِذَا وَقَّرْتُهُ وَعَظَّمْتُهُ مِنَ الْهَيْبَةِ أَيْ أَتُوَقِّرْنَنِي (وَلَا تَهَبْنَ) أَيْ: وَلَا تُعَظِّمْنَ (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْنَ: نَعَمْ) ، هَذَا غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى مَجْمُوعِ قَوْلِ عُمَرَ بَلْ إِلَى قَوْلِهِ: أَتُوَقِّرْنَنِي فَقَطْ، وَإِلَّا فَيَشْكُلُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَلَا يَعْبُدُ أَنْ يَكُونَ نَعَمْ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا وَمُقَدَّمًا عَلَى قَوْلِهِ: (أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ) ، أَيْ أَنْتَ كَثِيرُ الْفَظِّ أَيْ سَيِّءُ الْكَلَامِ وَكَثِيرُ الْغِلَظِ أَيْ: شَدِيدُ الْقَلْبِ بِخِلَافِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ حَسَنُ الْخُلُقِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: ٤] وَقَالَ: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: ١٥٩] ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: (خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يُرِدْنَ بِذَلِكَ إِثْبَاتَ مَزِيدِ الْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ لَعُمَرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا مُوَاسِيًا رَقِيقَ الْقَلْبِ فِي الْغَايَةِ، بَلِ الْمُبَالَغَةُ فِي فَظَاظَةِ عُمَرَ وَغِلَظِهِ مُطْلَقًا اه.
وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ فِيكَ زِيَادَةَ فَظَاظَةٍ وَغِلْظَةٍ بِالْقِيَاسِ إِلَى غَيْرِكَ لَا بِالْقِيَاسِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ رَفِيقًا حَلِيمًا جِدًّا، لَكِنْ يُشْكِلُ هَذَا بِمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي بَابِ التَّبَسُّمِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ فَقُلْنَ: إِنَّكَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنْ يُجْعَلَ مِنْ بَابِ الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ، وَالشِّتَاءُ أَبْرَدُ مِنَ الصَّيْفِ، فَيَرْجِعُ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي حَالِهِ عَلَى أَعْلَى مَرْتَبَةِ كَمَالِهِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِيهٍ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَالْهَاءِ مُنَوَّنًا وَقَدْ يُتْرَكُ تَنْوِينُهُ أَيْ حَدِّثْ حَدِيثًا وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى جَوَابِهِنَّ (يَا ابْنَ الْخَطَّابِ) وَفِي رِوَايَةٍ يَا «عُمَرُ» وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ فِعْلٍ يُطْلَبُ بِهِ الزِّيَادَةُ أَيِ اسْتَزِدْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصَلُّبِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: ( «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا» ) أَيْ: ذَاهِبًا طَرِيقًا وَاسِعًا (قَطُّ إِلَّا سَلَكَ غَيْرَ فَجِّكَ) . فَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِعُمَرَ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعِصْمَةِ إِذْ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَتِهِ الْمُوجِبَةِ لِغَفْلَتِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِيهٍ اسْمٌ سُمِّيَ بِهِ الْفِعْلُ لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ: إِذَا اسْتَزَدْتَهُ مِنْ حَدِيثٍ أَوْ عَمَلٍ. إِيهٍ بِكَسْرِ الْهَاءِ، فَإِنْ وَصَّلْتَ نَوَّنْتَ، وَقُلْتَ: إِيهٍ حَدِيثًا، وَإِذَا أَسْكَتَّهُ وَكَفَفْتَهُ. قُلْتَ: إِيهًا عَنَّا وَمِنْ حَقِّهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ إِيهًا أَيْ كُفَّ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ مَجْرُورًا مُنَوَّنًا وَالصَّوَابُ إِيهًا. وَرَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي (جَامِعِهِ) ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي رِوَايَتِهِ ذِكْرٌ. أَقُولُ: إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ وَطَابَقَتِ الدِّرَايَةَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَصْحِيحِ مَعْنَاهُ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْطِئَةِ فِي مَبْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتُوَقِّرْنَنِي وَلَا تُوَقِّرْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) : هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ هِبْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَقَّرْتَهُ وَعَظَّمْتَهُ، يُقَالُ: هَبِ النَّاسَ يَهَابُوكَ أَيْ وَقِّرْهُمْ يُوَقِّرُوكَ اه. كَلَامُهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ بِتَوْقِيرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ تَجِبُ الِاسْتِزَادَةُ مِنْهُ، فَكَأَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِيهٍ) اسْتِزَادَةٌ مِنْهُ فِي طَلَبِ تَوْقِيرِهِ وَتَعْظِيمِ جَانِبِهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) إِلَخْ. فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِرْضَاءٍ لَيْسَ بَعْدَهُ اسْتِرْضَاءٌ إِحْمَادًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفِعَالِهِ كُلِّهَا، لَا سِيَّمَا هَذِهِ الْفِعْلَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute