قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَرَّرَ إِمْسَاكَهَا عَنْ ضَرْبِ الدُّفِّ هَاهُنَا بِمَجِيءِ عُمَرَ، وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ، وَلَمْ يُقَرِّرِ انْتِهَاءَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْجَارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا تُدَفِّفَانِ أَيَّامَ مِنًى؟ قُلْتُ: مَنَعَ أَبَا بَكْرٍ بِقَوْلِهِ: دَعْهُمَا، وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ، وَقَرَّرَ ذَلِكَ هُنَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَالَاتِ وَالْمَقَامَاتِ مُتَفَاوِتَةٌ، فَمِنْ حَالَةٍ تَقْتَضِي الِاسْتِمْرَارَ، وَمِنْ حَالَةٍ لَا تَقْتَضِيهِ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَنْعُ الصِّدِّيقِ لَهُمَا عَنْ فِعْلِهِمَا بِحُضُورِ الْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ لَا يَخْلُو أَنَّهُ مِنْ قُصُورِ آدَابِ الْبَشَرِيَّةِ، فَلِذَا مَا قَرَّرَ لَهُ ذَلِكَ وَبَيَّنَ لَهُ سَبَبَ اسْتِمْرَارِ فِعْلِهِمَا هُنَالِكَ، وَأَمَّا هُنَا فَلَوْ دَخَلَ عُمَرُ وَرَآهَا عَلَى حَالِهَا بِحَضْرَةِ سَمَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهَا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى حُسْنِ آدَابِهِ، لَكِنْ لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ مَأْتَاهُ سَبَبًا لِانْتِهَائِهَا عَنْ فِعْلِهَا الْمَكْرُوهِ بِحَسَبِ أَصْلِهِ، وَلَوْ صَارَ مَنْدُوبًا بِمُوجَبِ نَذْرِهَا، وَاسْتَحْسَنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَرَّرَ امْتِنَاعَهَا وَقَرَّرَ مَنْعَهُ بِالْقُوَّةِ الْإِلَهِيَّةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الْإِرَادَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ انْتِهَاءَهَا عَمَّا كَانَتْ فِيهِ بِمَجِيءِ عُمَرَ، فَسَكَتَ لِيُظْهِرَ بِذَلِكَ فَضْلَ عُمَرَ وَيَقُولُ مَا قَالَ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ مَدْخُولَةٌ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَبْقَى مَعْلُولَةً. نَعَمْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ انْتِهَاءُ مُدَّةِ ضَرْبِ الدُّفِّ عَلَى طَرِيقِ الْعُرْفِ بِابْتِدَاءِ مَأْتَى عُمَرَ فِي مَجْلِسِ الْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا أَظْهَرُ وَأَوْلَى مِمَّا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ظَهَرَ لِي وَجْهٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا كَانَ يُحِبُّ مَا صُورَتُهُ تُشْبِهُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ مِنْ وَجْهِ حَقٍّ، وَيُؤَيِّدُ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ حَمِدْتُ اللَّهَ بِمَحَامِدِهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (إِنَّ رَبَّكَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمَدْحَ، هَاتِ مَا امْتَدَحْتَ بِهِ رَبَّكَ) قَالَ: فَجَعَلْتُ أُنْشِدُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ قَالَ: فَاسْتَنْصَتَنِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَصَفَ لَنَا أَبُو سَلَمَةَ كَيْفَ اسْتَنْصَتَهُ قَالَ: كَمَا يَصْنَعُ بِالْهِرِّ، فَدَخَلَ الرَّجُلُ فَتَكَلَّمَ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَ، ثُمَّ أَخَذْتُ أُنْشِدُهُ أَيْضًا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدُ فَاسْتَنْصَتَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ ذَا الَّذِي تَسْتَنْصِتُنِي لَهُ؟ فَقَالَ: (هَذَا رَجُلٌ لَا يُحِبُّ الْبَاطِلَ، هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) » أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَطْلَقَ عَلَى هَذَا بَاطِلًا وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ حَقًّا لِأَنَّهُ حَمْدٌ وَمَدْحٌ لِلَّهِ إِلَّا أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْبَاطِلِ إِذِ الشِّعْرُ كُلُّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَرِيرَةٍ طَبَخْتُهَا لَهُ، فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنِي وَبَيْنَهَا: كُلِي، فَأَبَتْ. فَقُلْتُ: لَتَأْكُلِنَّ أَوْ لَأُلَطِّخَنَّ وَجْهَكِ. فَأَبَتْ، فَوَضَعْتُ يَدَيَّ فِي الْحَرِيرَةِ وَطَلَيْتُ بِهَا وَجْهَهَا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَ فَخِذَهُ لَهَا وَقَالَ لِسَوْدَةَ: (الْطَخِي وَجْهَهَا) فَلَطَخَتْ وَجْهِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا، فَمَرَّ عُمَرُ فَنَادَى: يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا عَبْدَ اللَّهِ! فَظَنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَيَدْخُلُ فَقَالَ: (قُومَا فَاغْسِلَا وُجُوهَكُمَا) قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَا زِلْتُ أَهَابُ عُمَرَ لِهَيْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُ» . رَوَاهُ ابْنُ غَيْلَانَ مِنْ حَدِيثِ الْهَاشِمِيِّ، وَخَرَّجَهُ الْمُلَّا فِي سِيرَتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute