(فَأَنْتُمْ) : بِالْفَاءِ هُنَا خِلَافًا، لِمَا تَقَدَّمَ (الْيَوْمَ تَمْنَعُونَنِي أَنْ أُصَلِّيَ فِيهَا) . أَيْ: فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْمَسْجِدِ. (فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ) : بِلَا فَاءٍ هُنَا وَفِيمَا بَعْدَهُ خِلَافًا لِمَا قَبْلُ (أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنِّي جَهَّزْتُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ مِنْ مَالِي) ؟ أَيْ: وَقَالَ لِي مَا قَالَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ حَالِي وَمَآلِي (قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى ثَبِيرِ مَكَّةَ) : بِفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَرَاءٍ جَبَلٌ بِمَكَّةَ. وَفِي " الْمِصْبَاحِ ": جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى، وَهُوَ يُرَى مِنْ مِنًى وَهُوَ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ مِنْهَا إِلَى مَكَّةَ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ثَبِيرٌ جَبَلٌ بِالْمُزْدَلِفَةِ عَلَى يَسَارِ الذَّاهِبِ إِلَى مِنًى، وَهُوَ جَبَلٌ كَبِيرٌ مُشْرِفٌ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ بِمِنًى، وَبِمَكَّةَ جِبَالٌ كُلٌّ مِنْهَا اسْمُهُ ثَبِيرٌ اهـ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ جَبَلٌ مُشْرِفٌ عَلَى مِنًى مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إِلَى تِلْقَاءِ مَسْجِدِ الْخَيْفِ وَأَمَامَهُ قَلِيلًا عَلَى يَسَارِ الذَّاهِبِ إِلَى عَرَفَاتٍ، كَذَا حَكَاهُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ. وَقَالَ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ: إِنَّهُ عَلَى يَسَارِ الذَّاهِبِ إِلَى مِنًى. وَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ، وَقِيلَ: وَهُوَ جَبَلٌ عَظِيمٌ بِالْمُزْدَلِفَةِ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ إِلَى عَرَفَةَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ أَعْظَمُ جَبَلٍ بِمَكَّةَ عُرِفَ بِرَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ كَانَ اسْمُهُ ثَبِيرًا دُفِنَ فِيهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَالسُّهَيْلِيُّ وَالْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ: هُوَ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ أَيْ بِقُرْبِ مَكَّةَ، وَقِيلَ: هُوَ جَبَلٌ مُقَابِلٌ لِجَبَلِ حِرَاءَ اهـ.
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: حِرَاءُ مَكَانُ ثَبِيرٍ (وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَنَا، فَتَحَرَّكَ الْجَبَلُ) أَيِ: اهْتَزَّ ثَبِيرٌ (حَتَّى تَسَاقَطَتْ حِجَارَتُهُ) أَيْ: بَعْضُهَا (بِالْحَضِيضِ) ، أَيْ أَسْفَلَ الْجَبَلِ وَقَرَارِ الْأَرْضِ (فَرَكَضَهُ) أَيْ: ضَرَبَهُ (بِرِجْلِهِ. قَالَ) : اسْتِئْنَافٌ « (اسْكُنْ ثَبِيرُ) ، أَيْ يَا ثَبِيرُ (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ) » ، أَيْ حَقِيقِيَّانِ حَيْثُ قُتِلَا عَقِبَ الطَّعْنِ وَمَاتَا قَرِيبًا مِنْ أَثَرِ الضَّرْبِ، وَهُمَا عُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَلَا يُنَافِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصِّدِّيقَ شَهِيدَانِ حُكْمِيَّانِ حَيْثُ كَانَ أَثَرُ مَوْتِهِمَا مِنَ السُّمِّ الْقَدِيمِ لَهُمَا (قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ) كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُتَعَجِّبُ عِنْدَ إِلْزَامِ الْخَصْمِ وَتَبْكِيتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ (شَهِدُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ أَنِّي شَهِيدٌ) ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَفْعُولُ شَهِدُوا أَيْ شَهِدَ النَّاسُ أَنِّي شَهِيدٌ (ثَلَاثًا) أَيْ: قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَى آخِرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِزِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي إِثْبَاتِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ خُصَمَاءَهُ عَلَى الْبَاطِلِ عَلَى طَرِيقٍ يُلْجِئُهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ، أَوْرَدَ حَدِيثَ ثَبِيرِ مَكَّةَ، وَأَنَّهُ مِنْ أَحَدِ الشَّهِيدَيْنِ مُسْتَفْهِمًا عَنْهُ فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ وَأَكَّدُوا إِقْرَارَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ نَعَمْ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ تَعَجُّبًا وَتَعْجِيبًا وَتَجْهِيلًا لَهُمْ وَاسْتِهْجَانًا لِفِعْلِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٢٩] فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ضَرَبَ مَثَلَ عَابِدِ الْأَصْنَامِ وَعَابِدِ اللَّهِ تَعَالَى بِرَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَهُ شُرَكَاءُ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ، وَتَنَازَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَبَدُهُ فَهُمْ يَتَجَاذَبُونَهُ، وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِي أَمْرِهِ لَا يَدْرِي أَيَّهُمْ يَرْضَى بِخِدْمَتِهِ، وَالْآخَرُ قَدْ سَلِمَ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ وَخَلَصَ لَهُ، فَهُوَ يَلْتَزِمُ خِدْمَتَهُ، فَهَمُّهُ وَاحِدٌ وَقَلْبُهُ مُجْتَمِعٌ، وَاسْتَفْهَمَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [هود: ٢٤] فَلَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يُذْعِنُوا وَيَقُولُوا: لَا، فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: ٧٥] كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ) . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زَادَ: وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ إِذْ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُشْرِكِينَ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالَ: هَذِهِ يَدِي وَهَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ، فَبَايَعَ لِي فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَنِي إِحْدَى ابْنَتَيْهِ بَعْدَ الْأُخْرَى رِضًا لِي وَرِضًا عَنِّي؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute