فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ هَذَا كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ أَدْخَلَهُ بَيْنَ قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاسْقُوا مِنْ غُدَرِكُمْ، أَيِ: الْزَمُوا الشَّامَ وَاسْقُوا مِنْ غُدَرِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهَا رَخَّصَ لَهُمْ فِي النُّزُولِ بِأَرْضِ الْيَمَنِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا بُدِئَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الْيَمَنَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ خَاطَبَ بِهِ الْعَرَبَ، وَالْيَمَنُ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَاسْقُوا مِنْ غُدَرِكُمْ لِيَسْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ غُدَرِهِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ، وَالْأَجْنَادُ الْمُجَنَّدَةُ بِالشَّامِ، لَا سِيَّمَا أَهْلُ الثُّغُورِ وَالنَّازِلُونَ فِي الْمُرُوجِ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتَّخِذَ كُلُّ فِرْقَةٍ لِنَفْسِهَا غَدِيرًا تَسْتَنْقِعُ فِيهَا الْمَاءَ لِلشُّرْبِ وَالتَّطَهُّرِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ، فَوَصَّاهُمْ بِالسَّقْيِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِمْ وَتَرْكِ الْمُزَاحَمَةِ فِيمَا سِوَاهُ، وَالتَّغَلُّبِ لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبًا لِلِاخْتِلَافِ وَتَهْيِيجِ الْفِتْنَةِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ قَوْلُهُ فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ وَارِدٌ عَلَى التَّأْنِيبِ وَالتَّغْيِيرِ، يَعْنِي أَنَّ الشَّامَ مُخْتَارَةُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَرْضِهِ، فَلَا يَخْتَارُهَا اللَّهُ لِخِيرَةِ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ أَيَّتُهَا الْعَرَبُ مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاخْتَرْتُمْ بِلَادَكُمْ وَمَسْقَطَ رَأْسِكُمْ مِنَ الْبَوَادِي، فَالْزَمُوا يَمَنَكُمْ وَاسْقُوا مِنْ غُدَرِهَا ; لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لَكُمْ مِنْ مِيَاهِ الْبَوَادِي. أَلَا تَرَى كَيْفَ جَمَعَ الضَّمِيرَيْنِ فِي الْقَرِينَتَيْنِ بَعْدَ إِفْرَادِهِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الشَّامَ أَوْلَى بِالِاخْتِيَارِ وَالْيَمَنَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، وَالْغُدَرُ جَمْعُ غَدِيرٍ وَهُوَ حُفْرَةٌ يُنْقَعُ فِيهَا الْمَاءُ، وَالْعَرَبُ أَكْثَرُ النَّاسِ اتِّخَاذًا لَهَا، وَلِذَلِكَ أُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ فِي سَائِرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ، وَالصَّوَابُ قَدْ تَكَفَّلَ لِي وَهُوَ سَهْوٌ إِمَّا فِي أَصْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ بَعْضِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، فَنُقِلَ عَلَى مَا وُجِدَ. قَالَ الْقَاضِي: أَرَادَ بِالتَّوَكُّلِ التَّكَفُّلَ فَإِنَّ مَنْ تَوَكَّلَ فِي شَيْءٍ، فَقَدْ تَكَفَّلَ بِالْقِيَامِ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِي حِفْظَهَا وَحَفِظَ أَهْلِهَا مِنْ بَأْسِ الْكَفَرَةِ وَاسْتِيلَائِهِمْ بِحَيْثُ يَتَخَطَّفُهُمْ وَيُدَمِّرُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَقَوْلُهُ: لِي لَيْسَ بِصِلَةِ تَوَكَّلَ وَصِلَتُهُ إِمَّا: عَلَى أَوِ: الْبَاءُ وَلَا يَجُوزُ الْأَوَّلُ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي أَيْ: تَوَكَّلَ بِالشَّامِ لِأَجْلِي، وَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: تَوَكَّلَ بِالْأَمْرِ إِذَا ضَمِنَ الْقِيَامَ بِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute