للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أَوِ التَّقْدِيرُ، فَإِنَّ الْعَطَاءَ الْكَثِيرَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِالسِّيَاقِ فَضْلِي. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ مَعَهُمْ شَرْطًا، وَقَبِلُوا أَنْ يَعْمَلُوا بِهِ، فَكَانَ فَضْلُهُ مَعَ النَّصَارَى عَلَى الْيَهُودِ شَرْطُهُ فِي زَمَانٍ أَقَلَّ مِنْ زَمَانِهِمْ، مَعَ أَنَّهُمَا فِي الْأُجْرَةِ مُتَسَاوِيَانِ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَمُدَّةُ عَمَلِهِمْ أَقَلُّ مَعَ ضِعْفِ الْأُجْرَةِ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ اهـ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّهُمَا فِي الْأُجْرَةِ مُتَسَاوِيَانِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمُمَثَّلِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ مِنْ مُتَابَعَةِ الْكِتَابِيِّينَ وَالنَّبِيِّينَ دُونَ الْكُفَّارِ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ شَيْءٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّصَارَى حَيْثُ آمَنُوا بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ لَهُمْ مِنَ الْمَثُوبَةِ الْحُسْنَى مَا لَيْسَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كَانَ إِيمَانُهُمْ بِكِتَابِهِمْ وَنَبِيِّهِمْ فَقَطْ، كَمَا حُقِّقَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ} [القصص: ٥٤] فَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ تَكْرَارَ الْأَجْرِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْكِتَابِيِّ إِذَا دَخَلَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، كَمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ ظَاهِرِ آيَةِ {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ - أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ} [القصص: ٢٨ - ٥٤] وَمِنْ حَدِيثِ ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِكِتَابِهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُوَضِّحُهُ مَا فِي تَفْسِيرِ الْبَغَوِيِّ بِسَنَدِهِ مَرْفُوعًا، قَالَ: مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ عَلَى أَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ الَّذِي شَرَطْتَ لَنَا وَمَا عَمِلْنَاهُ بَاطِلٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ وَخُذُوا أَجْرَكُمْ كَامِلًا فَأَبَوْا وَتَرَكُوا وَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا آخَرِينَ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَلَكُمُ الَّذِي شَرَطْتُ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَالُوا: مَا عَمِلْنَاهُ بَاطِلٌ، وَلَكَ الْأَجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فِيهِ فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ وَإِنَّمَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَأَبَوْا وَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، فَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ، فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ مَا قَبِلُوا مِنْ هَذَا النُّورِ. هَذَا يَعْنِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: ٢٨] (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي تَوْقِيتِ الْعَمَلِ مِنَ النَّهَارِ وَتَقْدِيرِ الْأُجْرَةِ، فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَطْعُ الْأُجْرَةَ لِكُلِّ فَرِيقٍ قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَتَوْقِيتُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمْ زَمَانًا زَمَانًا، وَاسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُمْ وَإِيفَاؤُهُمُ الْأُجْرَةَ، وَفِيهِ قَطْعُ الْخُصُومَةِ وَزَوَالُ الْعَنَتِ عَنْهُمْ، وَإِبْرَاؤُهُمْ مِنَ الذَّنْبِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرٌ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى الرَّاوِي مِنْهُ بِذِكْرِ مَآلِ الْعَاقِبَةِ فِيمَا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْفِرَقِ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ: أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ الْإِنْجِيلَ، فَعَمِلُوا إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأُعْطِيْنَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَبْلَغَ الْأُجْرَةِ لِلْيَهُودِ لِعَمَلِ النَّهَارِ كُلِّهِ قِيرَاطَانِ، وَأُجْرَةَ النَّصَارَى لِلنِّصْفِ الْبَاقِي قِيرَاطَانِ، فَلَمَّا عَجَزُوا عَنِ الْعَمَلِ قَبْلَ تَمَامِهِ لَمْ يُصِيبُوا إِلَى قَدْرِ عَمَلِهِمْ، فَأُعْطُوا عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِمْ وَهُوَ قِيرَاطٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اسْتَوْفَوْا قَدْرَ أُجْرَةِ الْفَرِيقَيْنِ حَاسَدُوهُمْ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا اهـ. وَبِالْجُمْلَةِ فَيَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ زَمَنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَقَلُّ مِنْ زَمَنِ النَّصَارَى، كَمَا أَنَّ زَمَنَ النَّصَارَى أَقَلُّ مِنْ زَمَنِ الْيَهُودِ، عَلَى أَنَّ دِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُتَّصِلٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ لَا يَنْسَخُهُ نَاسِخٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>