أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَتَمَةِ لَيْلَةً، حَتَّى ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّهُ قَدْ صَلَّى، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: " اعْتِمُوا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فَإِنَّكُمْ فُضِّلْتُمْ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ وَلَمْ تُصَلِّهَا أُمَّةٌ قَبْلَكُمْ» ".
وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ آدَمَ لَمَّا تِيبَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْفَجْرِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَصَارَتِ الصُّبْحَ، وَفُدِيَ إِسْحَاقُ عِنْدَ الظُّهْرِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَصَارَتِ الظُّهْرَ، وَبُعِثَ عُزَيْرٌ فَقِيلَ لَهُ: كَمْ لَبِثْتَ؟ قَالَ: يَوْمًا فَرَأَى الشَّمْسَ فَقَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَصَارَتِ الْعَصْرَ، وَغُفِرَ لِدَاوُدَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ فَقَامَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَجُهِدَ فِي الثَّالِثَةِ أَيْ: تَعِبَ فِيهَا عَنِ الْإِتْيَانِ بِالرَّابِعَةِ لِشِدَّةٍ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَى مَا اقْتَرَفَهُ، مِمَّا هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى بِهِ، فَصَارَتِ الْمَغْرِبُ ثَلَاثًا، وَأَوَّلُ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخَرَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهَذَا وَمَا قَرَّرْتُهُ فِي (هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ) ، يَنْدَفِعُ قَوْلُ الْبَيْضَاوِيِّ تَوْفِيقًا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ خَبَرِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْعِشَاءِ: أَنَّ الْعِشَاءَ كَانَتِ الرُّسُلُ تُصَلِّيهَا نَافِلَةً لَهُمْ، وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَى أُمَمِهِمْ كَالتَّهَجُّدِ، فَإِنَّهُ وَجَبَ عَلَى نَبِيِّنَا وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا، أَوْ يُجْعَلْ هَذَا إِشَارَةً إِلَى وَقْتِ الْإِسْفَارِ، فَإِنَّهُ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ الْمَاضِيَةِ وَالْأُمَمِ الدَّارِجَةِ اهـ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ الْقَاضِي، فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ لَا دَلَالَةَ عَلَى نَفْيِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ نَفْيُهُ عَنِ الْأُمَمِ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي دَالٌّ عَلَى أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ مَعَ أُمَّتِهِ، فَلَا يُنَافِيهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَّوْهَا، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ مَا ذُكِرَ فِيهِ أَوَّلُ مَنْ شَرَّعَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ شَرَّعَ صَلَاةً تَبِعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّوْزِيعِ الَّذِي تَوَهَّمَهُ مَعَ أَنَّ رِوَايَةَ الطَّحَاوِيِّ لَا تُقَاوِمُ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ الْمُصَرِّحِ فِي الْمَقْصُودِ (وَالْوَقْتُ) : أَيِ: السَّمْحُ الَّذِي لَا حَرَجَ فِيهِ (مَا بَيْنَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: فِيمَا بَيْنَ (هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ) : فَيَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِهِ وَوَسَطِهِ وَآخِرِهِ، وَقَالَ مِيرَكُ: مَعْنَى زَوَالِ الشَّمْسِ هُوَ أَنْ يَكُونَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الْمَغْرِبِ أَيْ: جِهَتِهِ كَثِيرًا، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النُّقْصَانِ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى أَنْ وَقَفَ لَمْحَةً، فَإِذَا زَالَ الظِّلُّ بَعْدَهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ، فَإِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ بَعْدَ ظِلِّ الزَّوَالِ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ، فَقَوْلُهُ: أَوَّلًا صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ يُرَادُ مِنْهُ بَعْدَ ظِلِّ الزَّوَالِ، وَقَوْلُهُ ثَانِيًا صَلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلَهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ بَعْدَ ظِلِّ الزَّوَالِ، فَلَا يَكُونَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لِلْعَهْدِ أَيْ: أَوَّلُ وَقْتٍ صَلَّيْتَ وَآخَرُ وَقْتٍ، وَمَا بَيْنَهُمَا هُوَ الْوَقْتُ كَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ اهـ.
وَقَوْلُهُ: وَقَفَ لَمْحَةً لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَقْفَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَصَحَّحَهُ غَيْرُهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَزَادَ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ خَلْفَ جِبْرِيلَ وَالنَّاسُ أَيِ: الْمُسْلِمُونَ حِينَئِذٍ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ» ، يَعْنِي: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِمْ لِيُبَلِّغَهُمْ أَفْعَالَ جِبْرِيلَ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُقْتَدُونَ بِجِبْرِيلَ لَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَصَلَّى بِهِ جِبْرِيلُ، وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، وَظَاهِرُهُ صِحَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْمُقْتَدِي ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُشَاهِدُوا جِبْرِيلَ وَإِلَّا لَنُقِلَ ذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ دَفْعُهُ بِأَنَّ إِمَامَةَ جِبْرِيلَ لَمْ تَكُنْ عَلَى حَقِيقَتِهِ، بَلْ عَلَى النِّسْبَةِ الْمَجَازِيَّةِ مِنْ دَلَالَتِهِ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الْأَرْكَانِ وَكِمِّيَّتِهَا كَمَا يَقَعُ لِبَعْضِ الْمُعَلِّمِينَ، حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا فِي الصَّلَاةِ وَيُعَلِّمُونَ غَيْرَهُمْ بِالْإِشَارَةِ الْقَوْلِيَّةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute