للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها بالأودية التي تسيل فيها السيول؛ فواد كبير يسع ماء كثيرًا كقلب كبير يسع علمًا كثيرًا، وواد صغير يأخذ ماء قليلا كقلب صغير يسع علمًا قليلا، وهكذا.

وشبّه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات عند وصول الحق إليها بالزبد الذي يعلو الماء، ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها، وأنها لا تزال فوق الماء طافية مكدرة له حتى تذهب وتضمحل، ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي والحلية الخالصة.

كذلك الشبهات والشهوات لا يزال القلب يكرهها، ويجاهدها بالبراهين الصادقة، والإرادات الجازمة، حتى تذهب وتضمحل، ويبقى القلب خالصًا صافيًا ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق وإيثاره، والرغبة فيه، فالباطل يذهب ويمحقه الحق {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: ٨١] وقال هنا: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: ١٧] ليتضح الحق من الباطل والهدى والضلال.

ويتضح من الآية أن أعمال القلوب من المحبة، وصفاء النية لله، والخشوع، والتوكل، والاستعانة … إلخ؛ تلك الأعمال التي لا يطلع عليها إلا الله، وتكون مهيمنة على العمل ليكون صافيًا خالصًا لله لا تأتي ابتداءً؛ وإنما تحتاج إلى عمل الجوارح المسبوقة بنية الدخول فيها.

وقد بين ابن القيم أهمية العبادة القلبية القائمة على توحيد الله؛ وتأثيرها على العبادة؛ فقال: "وَرُوحُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَسِرُّهَا: إِفْرَادُ الرَّبِّ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَتَبَارَكَ اسْمُهُ، وَتَعَالَى جَدُّهُ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ- بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ: مِنَ التَّوَكُّلِ وَالْإِنَابَةِ وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ؛ فَلَا يُحَبُّ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا كَانَ يُحَبُّ غَيْرَهُ فَإِنَّمَا يُحَبُّ تَبَعًا لِمَحَبَّتِهِ، وَكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى زِيَادَةِ مَحَبَّتِهِ، وَلَا يُخَافُ سِوَاهُ، وَلَا يُرْجَى سِوَاهُ، وَلَا يُتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يُرْغَبُ إِلَّا إِلَيْهِ،

<<  <   >  >>