الصورة الغريبة: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١)[المدثر: ٤٩ - ٥١]. فتشترك مع الذهن حاسة النظر وملكة الخيال وانفعال السخرية وشعور الجمال: السخرية من هؤلاء الذين يفرون كما تفر حمر الوحش من الأسد لا لشيء إلا لأنهم يدعون إلى الإيمان، والجمال الذي يرتسم في حركة الصورة حينما يتملّاها الخيال في إطار من الطبيعة تشرد فيه الحمر يتبعها قسورة، فالتعبير هنا يحرك مشاعر القارئ وتنفعل نفسه مع الصورة التي نقلت إليه وفي ثناياها الاستهزاء بالمعرضين.
ب- ومعنى عجز الآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله! يمكن أن يؤدى في عدة تعبيرات ذهنية مجرّدة، كأن يقول إن ما تعبدون من دون الله لأعجز عن خلق أحقر الأشياء فيصل المعنى إلى الذهن مجرّدا باهتا.
ولكن التعبير التصويري يؤديه في هذه الصورة: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج: ٧٣]. فيشخص هذا المعنى ويبرز في تلك الصور المتحركة المتعاقبة:
لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً درجة، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وهذه أخرى، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ وهذه ثالثة، والاقتران بين الطالب والمطلوب ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ وهي الرابعة.
إنه الضعف المزري الذي يثير في النفس السخرية اللاذعة والاحتقار المهين، ولكن أهذه مبالغة؟ وهل البلاغة فيها هي الغلو؟.
كلا فهذه حقيقة واقعة بسيطة. إن هؤلاء الآلهة لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ. والذباب صغير حقير ولكن الإعجاز في خلقه هو الإعجاز في خلق الجمل والفيل؛ إنها معجزة الحياة يستوي فيها الجسيم والهزيل.
فليست المعجزة هي خلق الهائل من الأحياء إنما هي خلق الخلية الحيّة كالهباء. والصورة الفنية هنا هي الربط بين قدسية الآلهة المزعومة حيث