للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كلامهم بعد التحدّي وبين القرآن، ولما لم يكن كذلك بطل القول بالصرفة (١).

والعرب لم تفقد عقولها بعد التحدّي، فإن سلب العلوم ونسيانها في هذه المدة اليسيرة دليل على زوال العقل، ومعلوم بقاء العقول بعد التحدّي كما كانت، بل من تغلب على نزغات الشيطان وترك اتباع الهوى في نفسه وترفع عن الحسد والبغضاء وآمن بدعوة الحق ازداد عقله رجاحة وصفاء.

سئل عمرو بن العاص بعد إسلامه عن سبب تأخره في الاستجابة لدعوة الإسلام قال: لقد كان الأمر والتدبير لغيرنا سابقا، فكنا نسمع رأيهم ونطيع أمرهم، فلما آل الأمر إلينا رأينا أن الأمر أظهر من أن يحتاج إلى برهان.

ولا شك أن القول بالصرفة كان نتيجة للتفكير الفلسفي المجرد عن نور الهداية، حيث نظر القائلون بها إلى أن القرآن مؤلف من كلمات عربية معروفة باستطاعة البلغاء أن يأتوا بمثلها، فإذا عرفت المفردات أمكن التوصل إلى تركيبها، وإذا عرفت التراكيب أمكن تأليفها (٢)، وفاتهم أن المفردات والتراكيب تحتاج إلى الصبغة الإلهية واللمسة الربانية حتى تضفي عليها الإشراق والحياة فيسري فيها الروح فتكون معجزة وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣) [الشورى: ٥٢ - ٥٣].

إن مثل هؤلاء كمثل الطبيعيين اليوم ينظرون إلى الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان ويحاولون تحليلها إلى المواد الأولية التي تتكوّن منها.

يحاولون بواسطة هذه التحليلات معرفة سر الحياة وإيجاد إنسان أو حيوان أو نبات في المعمل. لقد فات هؤلاء أيضا أن النفخة الإلهية هي سر الحياة، فلولا هذه النفخة الإلهية لما تكوّنت الحياة في المواد الأولية، ولولا الصبغة الربانية لما كانت الكلمات العربية معجزة.


(١) انظر كتاب «الفوائد المشوق» لابن القيم، ص ٢٥٢.
(٢) ورد مثل هذا الاستدلال في كلام ابن سنان الخفاجي في كتابه «سر الفصاحة» ص ٩٠.

<<  <   >  >>