الأمصار، وعدم التقاء الفقهاء مما يجعل من الصعب الوقوف على آرائهم، وعدم معرفة المجتهد من غير المجتهد؛ نظرًا لحصول الاختلاف بين فقهاء أهل كل بلد من الحواضر الإسلامية، وعلى ذلك فيستحيل أن يتفق جميع المجتهدين على حكم شرعي مختلف فيه، ولكن جماهير العلماء يرون: أن الإجماع ممكن عقلًا، ووجوده متصور؛ لأن الأمة مجمعة على وجوب الصلوات الخمس، وسائر أركان الإسلام، وكيف نمنع تصور الإجماع، والأمة كلها متعبدة بالنصوص، والأدلة القواطع معرضون للعقاب بمخالفتها، وكما لا يمتنع اتفاقهم على الأكل والشرب لا يمتنع اتفاقهم على أمر من أمور الدين.
وإذا جاز اتفاق اليهود مع كثرتهم على باطل، فلمَ لا يجوز اتفاق أهل الحق عليه؟ أي: على الحق، وقد وقع الإجماع بالفعل، وتحقق في عصر الصحابة كإجماعهم على: أن الجدة تأخذ السدس تنفرد به الواحدة وتشترك فيه الأكثر من واحدة، وإجماعهم على عدم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وإجماعهم على أن الأخوة والأخوات لأب يقومون مقام الأشقاء إن لم يكن أشقاء، وإجماعهم على بطلان زواج المسلمة بغير المسلم وغير ذلك مما يطول حصره واستقصاؤه يراجع في ذلك الشيخ أبو زهر في (أصول الفقه) ص ١٥٩ وما بعدها.
والذي نراه في هذا المقام: أن انعقاد الإجماع بالمنظور الأصولي أمر يكاد لا يتحقق في الواقع، إنه إن أمكن تحقق هذا الإجماع في عصر الصحابة لقلة عددهم، وتجمعهم في المدينة، ومعرفتهم، وشهرتهم، مما يسهل الوقوف على آرائهم، وقد كان عمر -رضي الله عنه- يحرّم على كبار الصحابة وأهل الرأي مغادرة المدينة إلى البلاد المفتوحة إلا عند الضرورة.
نقول: إن أمكن هذا في عصر الصحابة، فهو غير ممكن في عصر التابعين ومن بعدهم بعد تفرق العلماء والمجتهدين في الأمصار والبلدان المفتوحة وإقامتهم بها،