كما قلنا- لأن هذه الأمور تتغير، وتتبدل من زمن إلى زمن، ومن حال إلى حال؛ لذلك كان أنسب شيء أن يقوم بتنظيمها، وتفصيلها، وتطبيقها علم السياسة الشرعية، وهذا معناه أن الشريعة الإسلامية إنما هي صالحة للتطبيق في كل زمانٍ، وفي كل مكان، وهي صالحة لإيجاد الحلول للمشكلات التي تستجد، والوقائع التي تستجد، ومن الذي يفعل ذلك، وفي إمكانه ذلك، إنما هو علم السياسة الشرعية.
اعتبار المصالح المرسلة دليلًا لاعتبار أحكام السياسة الشرعية
ومن الأدلة أيضًًا على اعتبار السياسة الشرعية المصالح المرسلة -يعني: عندنا من ضمن الأمور التي تحدث فيها الفقهاء في علم أصول الفقه، وهو المصالح المرسلة، والمصالح المرسلة إنما هي ضمن الأدلة المختلف فيها بين الفقهاء: هل هي دليل من أدلة الأحكام، أم ليست بدليل من أدلة الأحكام؟
لأنه لما نبحث في أصول الفقه عندنا هناك أدلة متفق عليه وهي: الكتاب، وهي السنة، والإجماع، والقياس، هذه أدلة متفق فيها بين الفقهاء، لكن هناك أدلة مختلف فيها كثيرة للغاية، منها: الاستحسان، منها الاستصحاب، منها شرع من قبلنا، إلى غير ذلك من الأمور، ومنها أيضًًا: المصالح المرسلة.
فعلاقة المصالح المرسلة بالسياسة الشرعية علاقة وثيقة، تظهر فيما نقوله الآن: فالمصالح المرسلة هي التي لم يقم دليل من الشرع على اعتبارها، أو إلغائها. المصالح المرسلة معناها: إننا -واقعة معينة- لم نجد هناك نص من الكتاب على اعتبار هذه الأشياء، أو عدم اعتبارها؛ لم يوجد نص لا في كتابٍ، ولا في سنة يدلنا على عدم اعتبار هذه المصلحة، أو عدم اعتباره؛ ولذلك سمية المصلحة مرسلة؛ لأنها مطلقة عن دليل، لماذا سميت المصلحة مصلحة مرسلة؟ قالوا: لأنها مطلقة عن دليل اعتبارها، أو إلغاءها -يعني: لا يوجد دليل يدل على أنها معتبرة شرعًًا، ولا يوجد دليل على أنها ملغاة شرعًًا، وعلى هذا: فإن المصلحة المرسلة لا تتحقق إلا في الوقائع التي سكت عنها الشارع، وليس لها أصل معين يمكن أن تقاس عليه، ويتحقق فيها معنى مناسب، والمعنى المناسب: هو ما يجلب للإنسان نفعًًا، أو يدفع عنه ضررًا.