للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٢ - اعتبار الحرب والسلام أمرًًا من أمور سيادة الدولة، فلا يصح لفردٍ، أو مجموعة أن تنفرد بإعلان حربٍ، أو عقد صلحٍ من دون الدولة.

٣ - حرمة الوطن، وأرضه، وهي تمثل إذ ذاك منطقة يثرب، وتعني تلك الحرمة مراعاة أرض الوطن من أي ضررٍ، سواء من الداخل، أو من الخارج.

٤ - وأخيرًا دعمت الصحيفة النظم الخاصة بمباشرة رئيس الدولة لمهامه بأن جعلته المرجع في كل خلافٍ يحدث، سواء بين المؤمنين، أو بينهم وبين جيرانهم، فالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يشرف على الميادين التطبيقية لجميع ما قررته الصحيفة من نظمٍ، وهو الفيصل في جميع ما يتعلق بتلك النظم من تفسيرٍ، أو إيضاحٍ، أو إصدار أحكام، ونذكر بعضًًا من نصوص هذه الوثيقة:

قد جاء: وأن لا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأنه من فتك؛ فبنفسه، ولا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالمٍ وآثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثِم، وأن الله جارٌ لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

وجاء فيها: وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله -عز وجل- وإلى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدثٍ، أو اشتجارٍ يخاف فساده؛ فإن مرده إلى الله -عز وجل- وإلى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

٣ - النظام المالي في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم

تابع: النظم التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد كنا نتحدث -في المحاضرة السابقة- عن نشأة النظم الإسلامية في الدولة الإسلامية، وتبين لنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت له تنظيمات إسلامية في مكة، وتنظيمات إسلامية في المدينة المنورة، فأما التنظيمات الإسلامية التي وضعها في مكة؛ فإنها تتمثل في إرساء القواعد الآتية: أولا الدعوة إلى وحدانية الله تعالى، واتخاذ هذه العقيدة أساسًا لمجتمع جديد له نظمه ومثله العليا.

ثانيًا: تقرير فكرة البعث والحساب بعد الموت، والتي تقرر المسئولية الفردية، وأنه ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، هذه الفكرة هي التي هزمت دعوى الجاهلية القائمة على العصبية القبلية.

ثالثًا: اتخاذ التقوى بدلًا من العصبية القبلية أساسًا لبناء قيم أخلاقية سامية.

رابعًا: التأكيد على وحدة الرسالات، وأن مصدرها واحد -وهو الله سبحانه وتعالى- وذلك للقضاء على تعدد المعتقدات في الحياة القبلية.

وأما التنظيمات التي كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة فإنها تتمثل في ما يلي:

أولًا: نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

ثانيًا: استخدام المصطلح الإسلامي المهاجرين والأنصار للدلالة على طلائع التنظيم الجديد للدولة الإسلامية في يثرب.

ثالثًا: إقرار نظام الدولة، والقانون بدلا من القبلية، والعرف.

رابعًا: اعتبار نظام المواطنة أساسه الهجرة لمقاومة الباطل.

خامسًا: إقرار نظام الشورى لتقوية روح الجماعة الجديدة، وحث أفرادها على تقديم المصلحة العامة على المصلحة الفردية.

سادسًا: إقرار نظام المسجد ليكون مركز إشعاع للدين والدنيا معًا؛ حيث مارس النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه من بعده مارسوا السياسة من داخل المسجد، وتبين لنا أنه قد تبلورت النظم الأساسية، والتزاماتها في الدستور الدائم الذي وضعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لإقرار العلاقات، ليس بين جماعة المؤمنين بعضهم البعض، ولكن بينهم وبين جيرانهم من أهل المدينة أيضًا، وصار هذا الدستور الذي اشتهر باسم الصحيفة صار أساس الدولة الإسلامية الوليدة، وأهم ينبوع من ينابيع النظم الإسلامية التي صاحبت تطور هذه الدولة، واتساعها على مر العصور، وهذا الدستور -أو هذه الصحيفة- قد أقر النظم والمبادئ الهامة التالية:

المبدأ الأول: وهو مفهوم الأمة، وحقوق المواطنة، وهذا المبدأ يندرج تحته بنود:

البند الأول: عرف الدستور الأمة تعريفًا لا يستند إلى الأسس والنظم القبيلة، وما اقترن بها من العصبية والنسب، وإنما قرر أن الأمة تضم كل من اعتنق الدين الجديد دون نظر إلى أصله أو قبيلته، وجاء هذا المبدأ عنصرًا هامًّا جعل الأمة الجديدة أمة مرنة، قابلة للاتساع، وضم شعوب كثيرة إلى رحابها، وتجلى هذا المفهوم الجديد للأمة في مقدمة الدستور، حيث قررت أن المؤمنين، والمسلمين من قريش، ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس.

البند الثاني: أكد الدستور أن هذه الأمة لا تعترف بتمايز طبقي، أو استغلال فردي على نحو ما ساد النظم القبلية، وإنما مهد السبيل لإذابة الفوارق بأن جعل القبائل تشكيلًا اجتماعيًّا لخدمة الأمة الجديدة.

وأما البند الثالث: فقد حدد الدستور فيه حقوق وواجبات الأمة الفتية بتشكيلها الجديد على الأسس التالية:

التراحم، والتعاون بين أبنائها في شتى النواحي -وبخاصة أولئك الذين أثقلتهم الديون، وضرورة مساعدتهم على التخلص من أعباء تلك الديون.

وأيضًا تحديد مسئولية الفرد، وتنظيم روابطه مع أهله وجيرانه من حيث الولاء، وذلك بما يتفق وأوضاعَ الدولة، ونظامها الجديد.

أما المبدأ الثاني الذي اشتمل عليه هذا الدستور، أو تلك الصحيفة فهو: سيادة القانون، والإجراءات التنفيذية؛ فقد نظمت الصحيفة حياة الناس داخل الدولة الجديدة على أساس سيادة القانون، وما يرتبط بذلك من إجراءات تنفيذية، فإذا أخل أحد بالأمن، أو ارتكب عملًا فاحشًا؛ فإن الأمة بأجمعها تتولى توقيع العقوبة المطلوبة، وأن الجميع مطالبون بالتضامن في تنفيذ تلك العقوبة، ولو كان ولد أحدهم، وارتبط بسيادة القانون تحويل الثأر إلى عقوبة، بمعنى: أنه عمل يقع على عاتق الأمة، بعد أن كانت الأفخاذ، والعشائر تقوم به طبقًا للنظام القبلي الباطل.

أما المبدأ الثالث الذي اشتمل عليه هذا الدستور، أو تلك الصحيفة فهو: حرية الأديان، وتحديد علاقة أتباعها بالدولة؛ فقد أصبحت الصحيفة مبدأً هامًّا من مبادئ الدولة الجديدة، وهو إقرار حرية الأديان السماوية، وأن أتباعها يعتبرون مواطنين لهم حق التمتع بحماية الدولة، وفق الشروط التي تضمنها الدستور الجديد، ولما كانت القبائل اليهودية وبطونها أهم عنصر من عناصر السكان في الدولة الإٍسلامية الجديدة بيثرب؛ فإن الصحيفة نصت في جلاء على ما لهم من حقوق وواجبات، سواء بالنسبة لجيرانهم من المواطنين المسلمين، أو بالنسبة للدولة وسلطاتها.

وأما المبدأ الرابع: فقد تكلم عن إتاحة الصحيفة تطبيق نفس الشروط، ليس على اليهود المخالفين للأوس والخزرج فحسب، بل على القبائل اليهودية الكبرى -إذا رغبت في ذلك- وأكدت الصحيفة عدالتها في معاملة اليهود بأنها لن تأخذهم جميعًا بجريرة فردية، وإنما ستعامل كل جماعة منهم حسب ما يبدر منهم.

وأما المبدأ الخامس: فقد تحدث عن سيادة الدولة، وإقرار مظاهر تلك السيادة فقد توّجت الصحيفة شروطها بإقرار النظم الخاصة بسيادة الدولة، وبيان حقوق رأس تلك الدولة، وهو الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وتمثلت قواعد سيادة الدولة فيما يلي:

البند الأول: اتحاد السكان جميعًا لدفع أي عدوان يمَس سيادة الدولة، سواء أصاب هذا العدوان فردًا، أو مجموعة تتصل أعمالها أو مهامها بشئون الدولة وأمنها.

والبند الثاني: اعتبار الحرب والسلام أمرا من أمور سيادة الدولة؛ فلا يصح لفرد، أو مجموعة أن تنفرد بإعلان حرب، أو عقد صلح من دون الدولة.

وأما البند الثالث: فهو حرمة الوطن وأرضه، وهي تمثل -إذا ذاك- منطقة يثرب، وتعني تلك الحرمة مراعاة سلامة أرض الوطن من أي ضرر، سواء من الداخل أو الخارج.

وأما البند الرابع: فإن الصحيفة دعمت النظم الخاصة بمباشرة رئيس الدولة لمهامه؛ بأن جعلته المرجع في كل خلاف يحدث، سواء بين المؤمنين، أو بينهم وبين جيرانهم؛ فالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يشرف على الميادين التطبيقية لجميع ما قررته الصحيفة من نظم، وهو الفيصل في جميع ما يتعلق بتلك النظم من تفسير، أو إيضاح، أو إصدار أحكام.

ونصت الصحيفة على ذلك فيما يلي: "وإنكم مهما اختلفتهم فيه من شيء فإن مرده إلى الله -عز وجل- وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده؛ فإن مرده إلى الله -عز وجل- وإلى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

تلك هي الصحيفة أو الدستور الذي وضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما ذهب إلى المدينة، وهاجر إليها، وقد نظمت الحقوق والواجبات في هذا الدستور،

<<  <   >  >>