وكان التطور الثقافي للأمة العربية قد تعرض -في السنوات الأولى من حياة الرسول الكريم قبل البعثة- إلى أزمة عنيفة هزت أركان الحياة القبلية في شبه جزيرة العرب كلها، وأصابت بالشلل جميع الأنظمة القبلية على اختلاف مظاهرها، من ممالك في اليمن وإمارات على أطراف الهلال الخصيب، ومشيخات في جوف بلاد العرب وبخاصة في مكة، وكان قوام هذه الأزمة هو الصراع بين الروح الفردية التي فطرت عليها النظم القبلية، وبين المحاولات التي قامت بها مجموعة من القبائل لبناء أحلافٍ تصلح نواةً لمجتمعات سياسية كبرى، فالهدف من النظام القبلي لم يكن إقامة حلفٍ كبير أو تشييد مجتمعٍ ثابت، وإنما ظل هذا النظام يعمل على تثبيت نفوذ أسرة كبيرة، أو إعلاء شأن عشيرةٍ أو قبيلة ورفعها إلى مكان الصدارة على أقرانها.
واتسمت المجتمعات السياسية التي قامت على قواعد هذا النظام القبلي، اتسمت بضيق الأفق، وقصر عمر المؤسسات فيها، إذ بقيت القبيلة هي الوحدة السياسية العليا، وشيخها هو الرئيس الأعلى دون أن تسمح النظرة القبلية الضيقة بانطلاق الأحداث الكبرى نحو بناء مجتمعٍ واحدٍ مترابط، وغدت صورة الحياة القبلية في بلاد العرب قبل بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- غدت هذه الصورة صورة بناءٍ متداع، وما صاحب هذا التداعي من فوضى في جميع النظم التي سيطرت على تلك الحياة.
وبدأت مظاهر التداعي في النظام القبلي تدوي ابتداءً من سنة ٥٧١م التي شهدت ميلاد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- فشب عليه الصلاة والسلام وسط هذه الحياة القبلية الصاخبة ووقف على جميع نظمها عن كثبٍ وعن تجارب ذاتية عديدة، هيأت له -عليه الصلاة والسلام- حمل الأمانة وأداء رسالتها بإخراج العرب من ظلمات تلك النظم إلى نور الإٍسلام وإعدادهم في نفس الوقت لنشر هذا الدين في جميع