بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع به نساءنا، وأبناءنا، فبايعنا يا رسول الله؛ فإنا والله، أهل الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر. وهنا تدخل أحد رجال يثرب، وطلب من الرسول مزيدًا من المواثيق؛ لأن قبولهم للدعوة الإسلامية يعني: قطع علاقة قبائل يثرب باليهود المجاورين لهم، وقال: يا رسول الله، إنا بيننا وبين الرجال -يعني: يهود المدينة- حبالا، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك، وتدعنا فتبسم الرسول الكريم، وقال:((الدم الدم، والهدم الهدم؛ أنا منكم، وأنتم مني أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)).
ثم قال لهم:((أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم)) فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا؛ تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، فقال لهم الرسول:((وأنتم على قومكم بما فيهم كُفَلَاء كَكَفَالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل عن قومي)) وصارت هذه البيعة -التي اشتهرت باسم بيعة العقبة الثانية، أو بيعة الحرب، أو ما عبروا عنه بحرب الأسود، والأحمر- صارت هذه البيعة إعلانًًا رسميًا بانتقال حق الدفاع عن الدعوة الإسلامية، وصاحبها إلى أعضاء هذا المجتمع الإسلامي الوليد، وجاءت هذه الاتفاقية بذلك حدثًًا هامًًا هز النظام القبلي هزًّا عنيفًا، وآذن بتقويضه من أساسه، ذلك أن النظام السياسي السائد -إذ ذاك- لم يكن يعرف حماية للفرد إلا في حماية القبيلة له، أما أن يتولى هذا الحق قوة خارج نطاق القبيلة -على نحو ما حددته بيعة العقبة الثانية- فهو تنظيم جديد لا يمكن أن تسكت عليه قريش، والملأ من شيوخها.
وتخبط الملأ فعلًا حين بلغته أنباء بيعة العقبة الثانية، ولم يجد منفذًا له من بين نظمه القبلية غير التآمر على قتل الرسول الكريم للحيلولة بينه، وبين الذهاب إلى يثرب،