واشتملت تنظيمات الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في الأيام الأولى من هجرته إلى يثرب على نظمٍ انتقاليةٍ، وأخرى أساسية جاءت كل منها، وليدة المجتمع الإسلامي الجديد، وكانت أهم معالم هذه النظم الانتقالية:
أولًا: نظام المؤاخاة، وهو أمر اقتضاه تيسير سبل المعيشة على أهل مكة المسلمين الذين تركوا بلدهم، وديارهم، وثرواتهم، وهاجروا إلى يثرب حفاظًًا على عقيدتهم الإسلامية، وإيمانهم الراسخ المتين؛ فعمد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى توفير أسباب العيش الكريم لهذا النفر من المسلمين لوضع نظام المؤاخاة، ونظام المؤاخاة هو البديل الإسلامي لنظام الحلف في القبيلة إذ كان الدين هو أساس المؤاخاة، وليست العصبية القبلية على نحو ما ساد نظام الحلف؛ فوزع الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- جماعة المهاجرين بمكة بمقتضى نظام المؤاخًاة، وزعهم على مسلمي يثرب بأن دعاهم إلى أن يتآخوا في الله أخوين أخوين، وعاش كل مهاجر من مكة مع أخٍ له من مسلمي يثرب، ويرث كل منهما الآخر عند الوفاة، وأظهر أهالي يثرب من المسلمين إخلاصًًا مثاليًا في تطبيق نظام المؤاخاة، وهو الأمر الذي امتدحه القرآن الكريم في قول الله تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر: ٩).
فسمح كل مسلمٍ من أهل يثرب لأخيه من المهاجرين بالمشاركة في الأعمال التجارية، وغيرها من شئونه الاقتصادية، وتقديمه كل ما يخفف متاعب الحياة عن هذا المهاجر، وعندما استقرت أحوال المهاجرين باتساع سلطان الدين الإسلامي، وكثرة أتباعه؛ لم يعد هناك حاجة إلى الاستمرار في نظام المؤاخاة، ونزل التشريع الإسلامي بإلغائه، وإبطال أحكامه الانتقالية، وذلك في قوله تعالى:{وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(الأنفال: من الآية: ٧٥)،