راجع إلى أن معنى العبادة الحقة ومعنى التكليف المعقول لا يتلاءمان مع الإكراه؛ والله تعالى -من جهة أخرى- قرر مسئوليتهم، وترك بعد ذلك نواميس الكون لتعمل عملها في الفرد والمجتمع، وهذا مبني على أن روح التوحيد تقوم على الحرية، وأن الإيمان أمر أكثر من مجرد الشعور، فهو في حقيقته يشبه رضا النفس عن علم ومعرفة.
والله -سبحانه وتعالى من جهة أخرى- قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان أو كفر؛ إلا أن الخلف بين الناس في أديانهم واعتقاد مِللهم سيظل موجودًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يود أن يؤمن كل الناس، وكان يحزن لكفر بعضهم، وهنا قال الله تعالى منفسًا عنه:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}(يونس: الآية: ٩٩) ويقول ابن عباس في تفسير هذه الآية: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على إيمان جميع الناس، فأخبره الله تعالى: إنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول، وبناء على ذلك أمرنا الله تعالى ألا نُكره أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي، دلائله وبراهينه لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله، وشرح صدره، ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهًا مقصورًا.
والإسلام قرر ذلك؛ لأنه يرى أن الإيمان الصحيح المقبول عنده هو ما جاء وليد يقظة عقلية، واقتناع قلبي عن رضًا ورغبة، وقد عرض الإسلام نفسه في دائرة هذا المعنى غير متجاوز له في قليل ولا كثير؛ فهو يعتبر حرية الاعتقاد حقًّا فطريًّا لكل إنسان في كل زمان ومكان، يجب تمكينه من التمتع بها دائمًا، بل هي من أولى حقوقه التي يثبت له بها وصف إنسان، فإذا سُلبت منه فقد سلبت إنسانيته؛