وأما قضاة عمر الذين ولاهم القضاء عنه في المدينة فهم: علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، والسائب بن يزيد، فقد خصصه عمر للفصل في القضايا البسيطة، فقد روي الطبراني أن عمر قال ليزيد عند تعيينه لمنصب القضاء:"رد الناس عني في الدرهم والدرهمين" أي: في القضايا التي لها مبالغ بسيطة، ومع ذلك فقد كان الخليفة عمر مع تخصيصه قضاة للمدينة يقضي بنفسه أحيانًا، وأحيانًا أخرى كان يُحيل قضاياه على زيد أو علي، وأحيانًا كان يُشركهما معه في بحث قضية ما يراه من وجهة نظره تحتاج إلى مستشارين.
ومما سبق يمكن أن نستخلص بأن عمر قسم القضاء إلى درجتين: القضاء البسيط، وهو خاص بالقضايا الصغيرة، وهذا أحاله على السائب بن يزيد عندما أمره أن يحكم بين الناس في الدرهم، والدرهمين، والقضاء الكلي، وقد خُصص لما عدا ذلك من القضايا -يعني: فيما زاد عن الدرهم والدرهمين كان هو القضاء الكلي- وهذه القضايا كان ينظرها علي بن أبي طالب، أو زيد بن ثابت في المدينة، أو عمر نفسه، أو هم جميعًا، أو اثنان منهم حسب مقتضيات الأحوال والظروف، وقد كان الأصل في نظام القضاء أن يعين القاضي الواحد للقضاء وحده في الدائرة المخصص لها، وهو يقوم على أساس نظام القاضي الفرد الذي يستقل وحده بإصدار الحكم في القضايا المعروضة عليه، وهذا النظام الذي عمل به عمر نظامٌ معمولٌ به في بعض الدول الآن ومنها مصر، وذلك بالنسبة لقضاة المحاكم الجزئية وقضاة الأمور المستعجلة، ومع أن هذا هو الأصل أي: أن يستقل القاضي وحده بالحكم، نقول: ومع أن هذا هو الأصل فقد صار عمر أيضًا في سلطته القضائية على تخويل القاضي الواحد أن يستعين بغيره معه في بعض القضايا المهمة، أو قد يحدد هو شروطًا معينة لبعض القضايا المهمة سلفًا بحيث إذا انطبقت هذه الشروط عليها تعين للنظر فيها أكثر من قاضٍ قبل الحكم فيها، وقد يدعوهم الخليفة بنفسه للنظر معهم في القضية، وذلك بحسب الأحوال كما سبق القول.
ومن ذلك نستخلص بأن القضية الواحدة كان ينظرها أحيانًا قاضيان معًا أو أكثر في أيام عمر، وأن قضاء الإسلام لم يجر فيه نظام القضاء على نظام القاضي الواحد دائمًا أبدًا كما زعم بعض المستشرقين، بل في نصوص الإسلام وتعاليمه وأعمال الخلفاء ما يجيزوا لأكثر من قاضٍ الاشتراك في قضية واحدة، وليس هذا النظام حديثًا ووليد المدنية -كما زعم من زعم- بل هو من نظام القضاء في الإسلام.
نهج عمر في القضاء ودستور التقاضي في عهده: كان عمر -رضي الله عنه- في قضائه يتبع ما جاء في الكتاب والسنة، فإن لم يجد فيهما ما يقضي به نظر في قضاء أبي بكر، فإن وجد له قضاء قضى به، وإلا استشار في ذلك فقهاء الصحابة وفي مقدمتهم علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت قاضياه، فقد جاء في (المبسوط) للسرخسي: أن عمر -رضي الله عنه- كان يستشر الصحابة مع فقهه، حتى كان إذا رُفعت إليه الحادثة قال: ادعوا إلي عليًا وادعوا إلي زيدًا، فكان يستشرهم ثم يفصل بما اتفقوا عليه، كانت القضية تُرفع إلى عمر فربما يتأمل في ذلك شهرًا ويستشير أصحابه، وقد سن عمر بن الخطاب لقضاة دستورًا يسيرون عليه في التقاضي وفي الحكم، وهو النهي الذي صار عليه بنفسه بالقضاء، إلا أنه رأى أن يدون ذلك وكل ما يتعلق بالقضاء وتنظيمه، وطريقة التقاضي، والحكم، وشروط الدعوى التي يصح النظر فيها، وغير ذلك، دون ذلك في كتاب خاص يعتبر هذا الكتاب هو أساس علم المرافعات في عالم القضاء، وهو الكتاب الذي بعث به إلى أبي موسى الأشعري وإلى غيره من القضاة، وهذا نص الكتاب: