وإذا تبين ذلك، فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الاتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت على أن تكون مدركة فيتيه العقل في بيداء الأوهام، وينقطع فإذا التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب، وهذا معنى ما نقل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه:"العجز عن الإدراك إدراك" ويقول ابن خلدون التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب.
سأل دعلب اليماني عليا- كرم الله وجهه- هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين فأجابه: أفأعبد ما لا أرى؟ فقال دعلب: وكيف تراه؟ قال: لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه العقول بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء، غير ملامس، بعيد منها غير مباين لها، متكلم لا بروية، مريد لا بهمة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، بصير لا يوصف بحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته وتجل القلوب من مخافته. وقول الإمام الهاشهي- كرم الله وجهه- "لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه العقول بحقائق الإيمان" إشارة إلى أن الإدراك ليس ادراكا عقليا مباشرا، وإنما هو إدراك لا يقع في الشعور والحس من إيمان لا يدرك بالعقول.
ووظيفة العقل هي إدراك ما يقع له من مظاهر الوجود، وقد ينتج الإدراك معرفة، ولكن الإيمان أكبر من الإدراك، وأعلى من المعرفة.
وسئل الصديق الأكبر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بم عرفت ربك فقال: عرفت ربي، ولولا ربي ما عرفت ربي، فقيل له وهل يتأتى لبشر أن يدركه؟ فقال العجز عن الإدراك إدراك ويعلق العز بن عبد السلام على هذا الخبر بقوله:"ومعنى هذه الإشارة الصديقية: إن الحواس الخمسة التي هي آلات الإدراك لسائر المحسوسات لا وصول لها لإدراكه فإذا علمت أن الحق سبحانه منزه عن إدراك الحواس لكن ذاته وصفاته لعجزها عن إدراكه، فقد عرفت الحق ... ربما يفهم من القول: بأن العجز عن الإدراك إدراك" أن الإيمان المستولد من العجز عن الإدراك إيمان باهت وأنه ليس بشيء والحق أن العجز عن الحقيقة الكبرى حقيقة الوجود العليا ليس هو العجز الذي يعقبه اليأس ويتبعه القنوط، وإنما هو إلهام